إيران أم الإسلام؟ تلك هي المسألة في طهران

TT

هل تملك طهران هوية خاصة بها؟ هل يمكن تخيل أي شيء يطلق عليه وصف إيراني خارج دائرة الإسلام؟

تلك هي بعض التساؤلات التي أثيرت خلال نقاش محتدم بين شخصيات محورية في المؤسسة الخمينية بطهران، الأمر الذي قد يتحول لعملية نشر غسيل قذر علانية.

اندلع النقاش في وقت سابق من هذا الشهر خلال تجمع لقرابة 1300 منفي إيراني قدموا إلى طهران في «زيارة تمهيدية» بناء على دعوة الحكومة.

أما الرجل الذي أثار القضية فهو إسفنديار رحيم مشايي، الذي يدعي كونه فيلسوفا، ويعمل مدير شؤون مجلس الوزراء المعاون للرئيس محمود أحمدي نجاد.

في البداية، عين أحمدي نجاد، مشايي كنائب أول للرئيس، لكنه أجبر على التراجع عن هذا القرار بعد إعلان شخصيات بارزة، منها «المرشد الأعلى» علي خامنئي، أنها لا تقبل بتقليد مشايي هذا المنصب.

إلا أن تبديل الألقاب لم يخلق اختلافا كبيرا حتى الآن فيما يخص نفوذ مشايي وسلطته، باعتباره المعلم الروحي لأحمدي نجاد. الملاحظ أن الرجلين اللذين تربطهما صداقة طويلة تجمعهما أيضا قرابة، حيث إن ابنة مشايي متزوجة من نجل أحمدي نجاد.

وفي حديثه إلى المنفيين الزائرين، اتبع مشايي نبرة وطنية، حيث تحدث عن إيران باعتبارها حضارة عظيمة تحمل رسالة عالمية و«مسؤوليات ترتبط بقيادتها العالمية». وأنهى كلمته بدعوة الضيوف للعودة إلى منفاهم لينقلوا فكر «المدرسة الإيرانية» و«الرسالة الإيرانية».

واستشهد مشايي في كلمته بعبارات مأثورة على لسان شعراء وفلاسفة فرس، في تناقض صارخ مع الخطاب الرسمي الذي يعمد إلى الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وعبارات مأثورة لمختلف الأئمة وآيات الله. كما غاب عن كلمة مشايي أي ذكر للخميني، الملا المؤسس للنظام الإيراني الحالي، أو «المرشد الأعلى» الراهن. والأكثر لفتا للانتباه عدم تعرضه للإسلام كثيرا، على الرغم من كونه فكرة متكررة في خطابات النظام الخميني منذ سيطرة الملالي على السلطة عام 1979.

ويعد خطاب مشايي أشبه بخطابات الحزب الإيراني القومي، وهو حركة وطنية بلغت ذروتها في خمسينات القرن الماضي، وحلها الشاه في نهاية الأمر عام 1975.

والمؤكد أن مشايي أثار الضيق بهذا الخطاب، خاصة بين الملالي، لإدراكهم أنه في حال تحول بؤرة الاهتمام من فكرة «الإسلامية» إلى «الإيرانية»، فإن متجرهم الذي يرجع تاريخ إنشائه لقرون عدة، ربما يخسر عملاءه. وعليه، بدأت حملة هجوم ضد مشايي من قبل ملالي راديكاليين أمثال أحمد جنتي وأحمد خاتمي اللذين خصصا خطبة الجمعة للتنديد بأقرب أصدقاء الرئيس باعتباره «شخصية مريبة»، بل و«ربما عميل لنفوذ أجنبي».

ثم حان دور آية الله محمد تقي مصباح يزدي، الذي يعتقد أنه مصدر الدعم الرئيسي لأحمدي نجاد داخل دائرة المؤسسة الشيعية الدينية، لمهاجمة مشايي باعتباره «شخصية غامضة تتبع أجندة مجهولة».

وجاء الهجوم الأخير من قبل رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، ميجور جنرال حسن فيروز آبادي، الذي دعا لمحاكمة مشايي بتهم تقترب من الخيانة. وعمد مشايي إلى الانتقام عبر إعلان مقاضاته فيروز آبادي بتهمة القذف.

كما انضمت عناصر أقل رتبة من الملالي والعسكريين، ناهيك عن بعض وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة فيالق الحرس الثوري الإسلامي، إلى هوجة الغوغاء المنظمة ضد مشايي.

حسنا، ما الذي تدور حوله كل هذه الضجة؟

الواضح أن خطاب مشايي لم يتضمن أي شيء يمكن النظر إليه باعتباره غير قانوني، حتى في ظل الدستور الخميني، إضافة إلى أنه لم يقل شيئا قد يهدد وجود النظام المحاصر.

بيد أن المشكلة تكمن في أن إيران الخاضعة للسيطرة الخمينية تفتقر لإمكانية عقد نقاش سياسي جدير بالاحترام، مثلما الحال مع الكثير من الدول النامية الأخرى، ففي مثل تلك الدول، لا يهاجم أفكارك من يختلفون معك في الرأي، وإنما شخصك. وعليه، لم يعبأ أحد بتفحص الأفكار التي طرحها مشايي، ولو بغرض دحضها فحسب. بدلا من ذلك، ويختار الجميع اتخاذ الطريق الأيسر باتهامه بالخبل أو العمل بناء على أوامر من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والموساد الإسرائيلي.

ويمكن النظر إلى خطاب مشايي باعتباره مناورة من جانب أحمدي نجاد لحرمان معارضي النظام من جزء على الأقل من الهالة الوطنية المحيطة بهم. بالنسبة للمتظاهرين الذين يصيحون بهتافات «جمهورية إيرانية، وليس جمهورية إسلامية»، ويرغب أحمدي نجاد في القول إن بمقدوره أن يكون على نفس مستواهم من الوطنية الإيرانية. كما يرغب في التظاهر بأن العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية من جانب الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تستهدف فعليا الأمة الإيرانية، وليس النظام الخميني.

العام الماضي، عندما حمل أنصار المرشح الرئاسي المهزوم مير حسين موسوي أعلاما خضراء، وهو اللون المميز للإسلام، كرمز مميز لهم، انتقم منهم أحمدي نجاد بارتداء اللون الأزرق، وهو اللون الوطني المميز لإيران قبل دخول الإسلام إليها.

وسعيا لتعزيز أوراق اعتماد الإيرانية، اقترح أحمدي نجاد خلق اتحاد من الدول الناطقة بالفارسية، وهي إيران وأفغانستان وطاجيكستان.

وتكمن المفارقة وراء ذلك في أن العلاقة الترادفية بين إيران والإسلام شكلت محور الوجود الإيراني كأمة على مدار 14 قرنا. بالنسبة لغالبية الإيرانيين، لا يزال الغزو العربي قصير الأمد لإيران جرحا مفتوحا. ومع ذلك، لا يزال غالبية الإيرانيين فخورين بشدة بإسهامات جدودهم في الحضارة الإسلامية. ولا يرغب سوى القليل فقط في محو الإسلام من تاريخهم وثقافتهم.

وشكلت هذه الهوية المزدوجة، التي يصفها البعض بالفصام الوطني، لب الوجود الإيراني كأمة منذ أكثر من 1400 عام، ومن غير المحتمل أن تسوى بصورة أو بأخرى قريبا. وراودت بعض المفكرين، أمثال الفقيه القانوني والمؤرخ العظيم، أحمد كسروي، والفيلسوف حسين كاظم زاده، الرغبة في نزع الطابع الإسلامي عن إيران بحيث يمكن «أن تستعيد ذاتها الحقيقية من جديد». إلا أنهما منيا بالفشل، لأن غالبية الإيرانيين رفضوا التخلي عن الإسلام، ما دام لا يفرض عليهم قسرا. لقد كانت إيران «ذاتها الحقيقية» طوال الوقت، حيث راودتها مشاعر السعادة وعدم الرضا في الوقت ذاته، حيال هذا الفصام التاريخي.

أما روح الله الخميني فلم يكن فيلسوفا، لكنه اقترف، هو الآخر، خطأ لا يقع فيه سوى الفلاسفة، حيث أخذ بنصيحة ماركس، حيال تغيير العالم بدلا من تفسيره، وحاول نزع الطابع الإيراني عن إيران. إلا أنه على الرغم من كراهيته الشديدة لفكرة إيران، فإن الخميني - أكثر المغامرين الذين حالفهم الحظ في تاريخنا - أخفق في تحقيق هدفه.

لقد شكل التساؤل «الإسلام أم إيران؟» قضية ساخنة على الصعيد السياسي الإيراني عند الكثير من المنعطفات التاريخية الفاصلة. عندما كان الغضب يساور الإيرانيين حيال نظام يشدد على الطابع الإيراني كجوهر شرعيته، وكان الإيرانيون يؤكدون فكرة الإسلام في المقابل، حيث كانوا يعمدون لإطالة اللحى، والتدفق على المساجد وإخراج الملالي من الأفنية الخلفية في أحياء منسية للوقوف في وجه الاستبداد القائم على توجه قومي.

هذه المرة، يؤكد الإيرانيون فكرة إيران في مواجهة نظام يزعم كذبا أن الإسلام المصدر الرئيسي لشرعيته. وفي هذه المرة أيضا، يدور القتال الحقيقي ضد الاستبداد، وليس الدين، بمعنى أن شيئا لم يتغير في المشهد السياسي الإيراني، فلا يزال الانفصام مستمرا، وكذلك الاستبداد.