المسرح الإسرائيلي في عصره الذهبي: «محكمة تيركل»

TT

بعد العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية في عرض المتوسط تمسكت تركيا بخمسة مطالب أساسية حولتها إلى خطوط حمراء في علاقتها بتل أبيب: تشكيل لجنة تحقيق دولية بإشراف الأمم المتحدة لتحديد المسؤوليات، إعادة السفن المحتجزة، الاعتذار الرسمي، دفع التعويضات للمتضررين ورفع الحصار كاملا عن غزة. أما الجانب الإسرائيلي فتمسك برفض جميع الشروط التركية المرتبطة مباشرة بإعادة العلاقات إلى سابق عهدها مصرا على أن أنقرة هي التي عليها الاعتذار وقبول مسؤوليتها المباشرة عن هذا العمل الاستفزازي.

لكن حكومة نتنياهو وبعد مرور أكثر من 8 أسابيع على الهجوم الإسرائيلي قررت إطلاق استراتيجية جديدة في التعامل مع هذه الأزمة في محاولة لقطع الطريق على التصلب التركي والخروج من مأزقها وتلميع صورتها أمام الرأي العام العالمي. لكن ما فعلته إسرائيل حتى الآن كان التحرك للإيحاء وكأنها تتراجع عن مواقفها السابقة من خلال إعادة السفن التي وضعت يدها عليها إلى تركيا ثم قبول التعاون مع لجنة التحقيق الأممية التي يشرف عليها الأمين العام للأمم المتحدة. لكن حكومة نتنياهو أعطت الأولوية والأهمية الأكبر للجنة تيركل الداخلية التي تحاول من خلالها تلقيننا درسا في الديمقراطية والشفافية فأطلقت يدها في موضوع الاستماع إلى بعض القادة السياسيين والعسكريين حول ما جرى دون أن تعطيها طبعا أي صلاحيات تنفيذية أو إلزامية. وهكذا خرجت النتائج الأولى لأعمال اللجنة وهي تقدم لنا عروضا حول مصداقية الدولة العبرية وتمسك قياداتها بمصالح إسرائيل فوق بقية المصالح وتبرير الهجوم وتحميل تركيا المسؤولية الأولى في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم. نتنياهو يلقننا دروسا جديدة في تعريف مبادئ وأسس القانون الدولي وقانون البحار وهو الذي قال لنا منذ البداية إن قرار تشكيل هذه اللجنة سيعزز مكانة إسرائيل فهي ستعمل لمصلحتها وليس ضدها. أما بقية القيادات السياسية فدخلت في سجال حول تحديد المسؤولين واتخاذ القرارات فتبادلت التهم أولا ثم تسابقت ثانيا على تحمل المسؤولية وسط سيناريو محكم وأدوار توزع على لاعبين محترفين كل يؤدي مهمته بإبداع وتفوق. ,أبرز الذين يشهد لهم كان رئيس الأركان الإسرائيلي أشكينازي الذي رفض جميع الحملات ضد المؤسسة العسكرية، وقال إنه لا ضرورة لاستجواب الضباط والجنود المشاركين في العملية فالأوامر أصدرها هو مباشرة وعليه بالتالي أن يتحمل المسؤولية الكاملة عن كل الأخطاء التي وقعت وفي مقدمتها كما قال عدم استخدام القوة العسكرية الكافية منذ البداية لتخفيف عدد الإصابات في الجيش الإسرائيلي!

تركيا التي رفضت منذ البداية الاعتراف بلجنة تيركل باعتبار أن إسرائيل لا يمكن أن تكون متهما ومدعيا عموميا وقاضيا في الوقت نفسه على طريقة «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم» تراهن الآن على اللجنة الأممية لتنتقم لها من القيادات الإسرائيلية رغم معرفتها التامة أن لجنة من هذا النوع لا نعرف حتى الساعة نوع الصلاحيات المعطاة لها وقدرتها على إلزام الأطراف بقرارات تتخذها وقناعات تصل إليها لن تقدم الكثير. إسرائيل التي رفضت لجنة مجلس حقوق الإنسان وتسعى جاهدة لعرقلة أعمال اللجنة الدولية تحاول إقناع الرأي العام العالمي بنتائج تحقيقات لجانها الداخلية هي لأنها الأقرب إلى الواقع والحيادية وأنها لن تتردد في مقاطعة أي لجنة تتعامل معها وكأنها المتهم أو المذنب في قرصنة المتوسط.

لجنة تيركل بالمقياس الإسرائيلي للأمور فرصة أمام أنقرة للتراجع عن مطالبها المتبقية بعدما استجابت إسرائيل للحد الأعلى الممكن التنازل عنه وهي لن تتردد في تحميل أنقرة مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه النقطة وتكرار أن إسرائيل فخورة بجنودها وأن على أنقرة أن تتحمل مسؤولية سياستها المتهورة وتدفع هي ثمن تهديد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين على هذا النحو.

مشهد المحكمة مثلا في مسرحية عادل أمام «شاهد ما شفش حاجة» ما زال يضحكنا رغم عشرات المرات من المتابعة لكن مشاهد «محكمة تيركل» التي يرى فيها بعض الإسرائيليين أنها حملت المسرح الإسرائيلي إلى عصره الذهبي لا تمثل سوى المزيد من الانكفاء والتراجع والانعزال الإسرائيلي عن دول المنطقة وشعوبها.

المفاجأة الوحيدة التي قد تطيح بكل ما نقول قد تكون توصيات تخرج بها هذه اللجنة وهي تحمل حكومة نتنياهو المسؤولية الكاملة مما قد يطيح بها ويساهم في تشكيل ائتلاف حكومي جديد أكثر انفتاحا واعتدالا وهو احتمال لن يتحقق دون الضوء الأخضر الأميركي المستبعد في هذه الآونة، فواشنطن منهمكة في الخروج من المستنقع العراقي لا أكثر ولا أقل.