أزمة قرار.. لا أزمة خيار

TT

في عهد عرفات، وحين كان رئيس منظمة التحرير يضطر للإقدام على خطوة سياسية إشكالية، كان يتخذ الترتيبات الإجبارية التالية:

أولها: تأمين دعم حركة فتح.. مركزا على صلاح خلف تحديدا حيث كان المرشح الدائم والفعال لإعلان أي خطوة وتأمين الإجماع الفتحاوي عليها، وبعد غياب خلف كان يلوذ بالمؤسسات.

وثانيها: تأمين دعم أو سكوت الفصائل المشاركة في منظمة التحرير خاصة الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وإن تعذر الحصول على دعم الاثنتين فواحدة.

وثالثها: تأمين دعم عربي، والتركيز هنا على السعودية ومصر.. ويكفي دعم صريح من واحدة، وسكوت من الأخرى.

ورابعها وآخرها: تأمين التغطية الإعلامية القوية لخطوته على أساس أنها خطوة أملتها المصالح الوطنية العليا.. ولو لم يقدم عليها لوقعت كارثة أكلت الأخضر واليابس معا.

وحين نسرد ما كان عرفات يعمل على تأمينه، فلا مناص في المقابل من تذكر ما كان يحرص على تجنبه.. وهنا لم يكن معنيا إلا بأمر واحد، هو أداء اللعبة من أولها إلى آخرها، محاذرا التفريط في استقلالية القرار الفلسطيني، إذ كان يفضل المشي على حبل رفيع يفصل بين الدعم العربي لقراره والإذن العربي باتخاذه أو الامتناع عنه، فالدعم العربي هو ضرورة سياسية لا غنى عنها، ولا نجاح لأي مبادرة من دونه، أما الإذن العربي فهو خرق استراتيجي يمس الأساس الذي استقرت عليه منظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، وهو أساس كافح عرفات سنوات طويلة وخاض معارك لا حصر لها كي يثبت دعاماته، ويجعله العنوان الأبرز للمنظمة وكيانها السياسي.

إن ما كان يحدث في ذلك العهد، لم يعد موجودا الآن. وإن وجد، فتراتبيته فوضوية، لا تؤدي النتيجة المطلوبة، وإنما عكسها تماما. ولنبدأ باستعراض ما حدث، مع التأكيد على أن ما كان يتم في عهد عرفات لم يكن نتاج اجتهاد آني يلوذ به الزعيم المسيطر حيال أزمة ما أو مأزق ما.. وإنما كان بمثابة منظومة عمل، التزمت بها الحالة الفلسطينية في كل المراحل، وأمام كل الأزمات والمنعطفات.

أولا.. فتح:

فمنذ غياب عرفات وحتى يومنا هذا، لا صلة لفتح بأي قرار سياسي. والكثير من قادتها يقولون ذلك، وقد اختبر هذا الأمر في أهم المنعطفات التي واجهتها الساحة الفلسطينية والتي عناوينها: الموقف من تقرير غولدستون على الصعيد السياسي، والموقف من المصالحة مع حماس على الصعيد الداخلي. وإذا ما أضيف إلى هذين العنوانين الموقف من المفاوضات، وربط الذهاب إليها من عدمه بشروط محددة، فإن حاصل جمع المواقف الفتحاوية من هذا الأمر يفضي إلى خلاصة واحدة، وهي أنه لا موقف محدد، أي لا موقف على الإطلاق.

وبوسعنا قراءة موقف فتح من المفاوضات المباشرة التي هي قيد البحث الآن، قراءة مسبقة، فهي ضدها.. لكنها ستضطر لأن تكون معها، ليس لقناعة مستجدة بها، وإنما كرد فعل على موقف حماس والآخرين منها.

ثانيا.. الفصائل:

لقد ألغي دور الفصائل عمليا، حين لم تشارك في اتخاذ الكثير من القرارات المهمة، إن لم أقل جميعها. لقد تم اختيار تكتيك مبتكر لإلغاء دور الفصائل من دون الإعلان عن ذلك بصورة مباشرة، إذ يؤخذ القرار في مكان ما، ثم يعرض على اللجنة التنفيذية، ونظرا لملابسات كثيرة توافق الفصائل أو تعترض أو تتحفظ، لكن بعد أن تكون الجهات المعنية قد تبلغت بالقرار وانتهى الأمر.

الفصائل هي التي أسهمت على نحو مباشر وفعال في تهميش دورها ثم إلغائه، وذلك بحكم الانفصام الظاهر بين قادتها وكيف يفكرون، ومواقفها التقليدية.. ذلك أن القادة دخلوا دوامة النفوذ والتوزير، فاختاروا القبض على نقيضين بيد واحدة: المشاركة الفعلية في مؤسسات المنظمة والسلطة، والمعارضة اللفظية لسياساتها.. لذا فإن مصداقية الموافقة أو الرفض لم تعد واردة.. وهذا هو الحال الآن.

وفي أمر الانتقال إلى المفاوضات، فإن ما كان أساسيا في ما مضى، وهو حتمية موافقة الجبهتين أو واحدة منهما، لم يعد قائما إذا ما صدقت الأخبار من أن الحركتين الشعبية والديمقراطية جادتان في رفض الذهاب إلى المفاوضات، بما يحمله ذلك من تداعيات سلبية على موقف الرئيس عباس الذي لن يذهب إلى المفاوضات وحماس وحدها من يعارضه.. بل كثيرون غيرها ومن عظم الرقبة، كما يقال.

ثالثا.. العرب:

وهذه هي الحلقة الأسهل في السلسلة كلها.. لقد لعب العرب مع الرئيس عباس وفق قواعد اللعبة التي وضعها هو.. إذ رفضوا ضمنا دور المحلل.. الذي سيتحمل أمام الرأي العام وزر أي قرار، خاصة وهم يعرفون أن قرار الذهاب إلى المفاوضات ليس قرارا محببا من قبل شعوبهم، وأعادوا، مع كل الحب والدهاء، الكرة إلى مكانها الطبيعي وهو الملعب الفلسطيني، إذ تذكروا أنهم هم من منح منظمة التحرير صفة الممثل الشرعي والوحيد وهم على غير استعداد لإلغاء قرارهم والتزام المواقف الصعبة والمحرجة نيابة عن المنظمة..

وها نحن الآن في وضع من سينادي على العرب في المأزق القادم، وسيلبون النداء باجتماع على أي مستوى ويعيدون قراءة موقفهم الأول.. «وتَغَطَّ يا من تريد الغطاء»..

رابعا: لا أمل في أن تؤدي أي تغطية إعلامية للقرارات التي ستتخذ إلى إقناع الناس بصدقية ما تم، ليس لأن الذهاب إلى المفاوضات المباشرة أمر محرم شعبيا من حيث المبدأ، لكن لأن الذين سيذهبون هم ذاتهم من عبأ الجماهير بعدم جدوى الذهاب، فلقد استمع الناس إلى مرافعات وجيهة مؤثرة، تظهر خطر الذهاب إلى المفاوضات من دون وقف الاستيطان ومن دون تحديد المرجعيات.. وحين يرى الناس ذهابا للمفاوضات مع استمرار الاستيطان ومن دون تحديد المرجعيات، فمن هنا تأتي الضربة للمصداقية، ومن هنا يقول خصوم الموقف «من فمك أدينك». أما إذا تم اعتبار بيان ما من الرباعية كغطاء، فبوسع الجميع السخرية من هذا الغطاء. فليست الرباعية من يستوطن، وليست هي من ينكر المرجعيات، وليست هي من يقدر على أن يضمن الالتزام الإسرائيلي بالعدالة الدولية، التي أهدرت منذ أكثر منذ ستة عقود..

هذا هو حال السياسة الفلسطينية، وهذه هي نتائجها. فالمعضلة لا تكمن في ضغوط عربية أو دولية، وإنما في ضغوط ذاتية، أو قيود وضعها القادة الرسميون الفلسطينيون بأيديهم في أيديهم. وحين جاء وقت الاستحقاق، وجد الفلسطيني نفسه مضطرا للدخول في سباق جهنمي بأيد مكبلة وعربة تم تنفيس عجلاتها قبل أن يبدأ السباق..

إنها أزمة قرار وليست أزمة خيار..

فالخيار اتخذ منذ عقود.. أما القرار فقد أضحى بفعل قلة الدراية أو أي أمر آخر مكبلا بالقيود..