إنما يحرقون «الإنجيل».. حين يدعون إلى «حرق القرآن»!

TT

لئن كانت القضية الأولى للقرآن هي التعريف بالله عز وجل (وكان ذلك هو موضوع مقال الأسبوع الماضي)، فإن قضيته الثانية هي «التعريف بالقرآن والدفاع عنه» - وهذا هو موضوع المقال الماثل - ومن تعريف القرآن بالقرآن: أنه كتاب لا ريب فيه: «الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ».. وأنه معصوم من التحريف والتبديل: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».. وأنه كتاب «تنوير»: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد».. وأنه رسالة عالمية: «إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين».. وأنه نزل للتفكر فيه: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».. وأنه مصدق للكتب التي سبقته: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ».. وأنه كتاب معجز: يَعْجَز البشر أن يأتوا بمثله: «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ».. وأنه كتاب نزل وفُصِّل بعلم الله: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

ولقد دفع القرآن عن نفسه حملات فكرية ودعائية - تعرض لها وقت التنزيل - استهدفت التشكيك فيه، والتشويش عليه.. ومن صور هذه الحملات: اتهام القرآن بأنه إفك افتراه النبي، وأنه مجموعة أساطير: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا».. ومن هذه الصور: صورة التشويش على القرآن لئلا يسمعه السامع بوضوح ونقاوة: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ». والظاهر: أن هذه الحملات الفكرية والدعائية ضد القرآن لم تطو صفحتها.. ألم يأتكم نبأ كنيسة دوف وورلد أوتريتش سنتر الأميركية التي دعت إلى تنظيم حملة عالمية لـ«حرق القرآن»؟!! يقود هذه الحملة قس أميركي اسمه تيري جونز الذي قال: «إن على المسيحيين والكنائس والمسؤولين السياسيين أن ينهضوا ويقولوا: إن الإسلام ليس مرحبا به في الولايات المتحدة»، والذي استنهض مراكز ومؤسسات دينية مسيحية أخرى للمشاركة في «حرق القرآن» واصفا الإسلام بأنه «شيطان»!!

ومع أن هذه تصرفات تحمل أعلى معدلات شحنات التهييج والاستفزاز، فإننا نلتزم المنهج الموضوعي والأخلاقي في رد هذا العدوان.. وبادئ ذي بدء لن نحمل المسيحيين كافة، والكنائس كلها، والأميركيين أجمعين وزر هذا الجنون، ففي كل أمة مجانينها الذين لا يحمل عقلاؤها تبعة جنونهم.

ثم إننا لا نخشى ولا نرتاع من هذه الحماقات. فقد مر علينا منذ ثوان صور مختلفة من الطعن في القرآن والتحريض عليه.. فماذا كانت العقبى؟.. هلكت الحملات الغابرة، وهلك أصحابها، وبقي القرآن عزيزا كريما مصونا لم يمسسه سوء.. وإنا لموقنون أن حماقات حرق القرآن ستجد المصير ذاته بلا أدنى ريب.. فهذان واقعان: واقع تاريخي - وواقع راهن، يدلان على صدق قول الله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».. حافظون له من التحريف والتبديل: ومن حملات الطعن والتشويش ونداءات الحرق والإرجاف بالحرق.

وبالنسبة لخبالة الحرق؛ نستبين حماقة دعاتها من خلال حقيقتين موضوعيتين:

أولا: أن الدعوة إلى حرق القرآن جريمة كاملة، وعدوان على حقوق المسلمين جميعا.. لا شك في ذلك، بيد أن الحرق - إذا جرى - إنما يحرق أوراقا طبع عليها النص المقدس.

أما القرآن العظيم فهو «محفوظ في صدور مئات الألوف من المسلمين اليوم».

وحفظ القرآن في الصدور هي الطريقة الأُولى في حفظ الكتاب المجيد: منذ تنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى يوم الناس هذا: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ».. نعم قد يفكر مجانينهم في حرق حفظة القرآن أيضا. فإن فعلوا فقد باشروا الحرب الحقيقية على الإسلام وأهله، وعندئذ يشتعل الكوكب بحرب كونية لن يكون ضحاياها المسلمون فحسب.. نعم يشتعل الكوكب بحرب تُعد الحروب الصليبية - بالقياس إليها - رحلة رفاه!!

ثانيا: الحقيقة الموضوعية الثانية التي تؤكد حماقة الداعين إلى حرق القرآن.. هي: أن الداعين إلى حرق القرآن إنما يدعون إلى «حرق الإنجيل نفسه»! ذلك أن القرآن هو السجل الأوحد الذي وثق الإنجيل وصدّقه.. نعم.. إن هؤلاء الحمقى يحرقون آية: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ».. وآية البشرى البهيجة: «إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».. وآية الميلاد العظيم المعجز: «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكلم مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا».. نعم.. نعم. إن هؤلاء الحمقى الداعين إلى حرق القرآن إنما يحرقون آية: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»، ويحرقون سورة «مريم» البتول الصدّيقة وهي السورة التي رفع فيها ذكر مريم، وعظم شرفها ووثق أيما توثيق: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حجابا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا».

هم يدعون إلى حرق القرآن، فهل يحل لنا أن نعاملهم بالمثل فندعو إلى حرق الأناجيل؟.. هذه دعوة حرام: منهجيا وأخلاقيا.

وحسبكمو هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح