أذان مالطا لا يصلح صورة المسلمين

TT

التعليقات على مقال التساؤل عن إحجام فقهاء المسلمين عن إدانة جرائم المتطرفين، أثار تعليقات (موقع «الشرق الأوسط»، رسائل إلكترونية وفاكس) دعمت مقاربة افتراضاتي للواقع: أولها أن غالبية المسلمين قوم مسالمون، لا يحبذون أدلجة الدين وتسييسه.

وثانيها أن عصابات التطرف، حتى من يلوح منها بشعارات كتحرير التراب الوطني أو حماية الدين، هي في رأي الأغلبية عصابات إجرام (تفجير القنابل في المدن، والاعتداء على النساء كراهية لأزيائهن، وحرق محلات تبيع كتبا أو أطعمة تخالف فلسفتهم؛ كلها جرائم في القوانين بصرف النظر عن الديانة الرسمية).

ودعمت التعليقات افتراضا ثالثا بأن أغلبية صناع الرأي الأكثر تأثيرا على مسلمي العالم، يتجاهلون - إما عن عمد أو سوء فهم - دورهم في إيصال المعلومات بأمانة للمسلمين، وفي دعوتهم لإدانة الإرهاب بأشكاله بلا استثناءات (فكيف يكون تفجير انتحاري لنفسه في قطار في بلدي جريمة قتل، بينما يتحول العمل نفسه إلى استشهاد بطولي في بلاد الآخرين؟) ليس فقط لإصلاح الصورة السلبية عن الدين خارج بلدان المسلمين، بل أيضا من أجل سلامة وجدان المسلم وصحته النفسية بالانتماء للبشرية لا بالانزواء بعيدا في «حارة المسلمين».

رسائل من ثمانية بلدان عربية لم يدر أصحابها بجريمة قتل الطالبان للأطباء بسبب تجاهل إعلام هذه البلدان لها.

مجموعة رابعة برهنت على استغلال تيارات سياسية (سواء علمانية أو دينية) للمشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ليس فقط «كقميص عثمان»، وإنما كساتر دخاني؛ إما لشغل الجماهير عن قضايا أساسية تمس الاقتصاد وحقوق الإنسان والمطالب بالحرية، أو لتعميق انعزالية المسلم والمسلمة عن الانخراط في المجتمع الذي يعيش فيه وفي المجال الأوسع للإنسانية.

ورغم أن هذه التعليقات كانت أقل من عشرة في المائة من جملة الرسائل، فإنها تعكس حالة من الالتباس بين المشاعر العاطفية والكبت من غياب وسائل التعبير بحرية من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الغرض الأساسي من نشر مقال في منابر مسؤولة كـ«الشرق الأوسط»، التي ترى في حرية التعبير وسيلة، وليس غاية؛ لأن الغاية هي رسالة نقل الخبر بحيادية وأمانة مع إطلاع القراء على اتجاهات فكرية وسياسية لا يطالعونها في صحفهم القومية (أي الكبرى في بلدانهم) لسبب أو لآخر.

وكنموذج لهذا الخلط تساءلت رسالة «أين فقهاء الصهيونية من جرائمها؟» (أصحاب التعبير غالبا ما يقصدون «اليهودية» ويخشون تهمة معاداة السامية).

هل يصلح إرهاب جماعات تطرف يهودية (كما حدث أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين) أو تورط قوات إسرائيلية في عمليات يشكك القانون الدولي في شرعيتها، بديلا عن تولي المسلمين مهمة استرداد رايات دينهم التي اختطفتها جماعات إرهابية كـ«القاعدة» والطالبان وأشكالهما؟

ويبدو الخلط أيضا في الأذهان بين العواطف من ناحية، والهدف الواقعي من النشر في منابر كـ«الشرق الأوسط» من ناحية أخرى، في تساؤل أحدهم «ولماذا لا تكتب عن إرهاب الصهاينة للفلسطينيين وحصارهم لغزة؟». والمنطق محير؛ فما هو مدى تأثير مقال في صحيفة عربية باللغة العربية على الرأي العام الإسرائيلي؟

وهل يبلغ التأثير حد إقناع الناخب الإسرائيلي بإسقاط حكومة ائتلاف بنيامين نتنياهو لسوء تعاملها مع سفينة تحمل مؤنا إلى غزة؟

أو هل سيقنع مقال في صحيفة عربية خارج إسرائيل، ولو عشرة يهود إسرائيليين بالتظاهر ضد الحكومة؟

فعندما يتظاهر آلاف من الليبراليين الإسرائيليين احتجاجا على سوء معاملة الفلسطينيين أو تباطؤ حكومتهم في خلق مناخ ملائم للمفاوضات، أو عندما تظاهر 400 ألف إسرائيلي ضد دور أرييل شارون في مذابح صبرا وشاتيلا عام 1982؛ كم من بينهم تظاهر نتيجة قراءته (لو عرف العربية) مقالا في صحيفة عربية، مهما بلغ توزيعها وعلا شأنها؟

وغالبية المعلقين البريطانيين، وأنا لست استثناء منهم، ينتقدون التصرفات الإسرائيلية عند خرق القانون أو انتهاك حقوق الإنسان، أو سرقة وتزوير «باسبورات» بريطانية استخدمت في عملية اغتيال ناشط حماس محمد المبحوح في دبي، والانتقاد تكون له آثار إيجابية فقط إذا نشر في صحيفة إسرائيلية بالعبرية. وهذا يتم إما بتكليف من هذه الصحف للمعلق مباشرة، أو إذا كانت الصحيفة الإسرائيلية مشتركة في اتفاقية «syndication»؛ أي حق نشر ما يكتب في صحف بريطانية تقدم هذه الخدمة.

أما النشر بلغة أخرى في منابر لا تصل الناخب الإسرائيلي نفسه فمثل الأذان في مالطا.

وأصحاب هذه التعليقات معذورون، لأنهم يرون في الصحف العربية، عشرات من الكتاب، ابتداء من صحافيين شباب مبتدئين إلى وزراء، مرورا بمعلقين وأكاديميين وخبراء ومسؤولين حكوميين، لا يكتبون إلا لمهاجمة إسرائيل وانتقاد تصرفاتها «الوحشية» في لبنان وغزة (وبعضهم ارتكبت حكوماته في مواطنيها أعمالا لا تقل - إن لم تكن أكثر - وحشية، وهم عنها متغافلون)، والموضوع هو نفسه يكرر بأساليب مختلفة وأرقام مجددة.

ويبدو أن الغرض مزايدة أيديولوجية أو إظهار غيرتهم على مشروع «القومية العربية» والتمسك «بتحرير الأرض» أمام فخامة الرئيس، ومعالي المسؤول؛ أي يكتبون لقارئ واحد، والباقي من أهل مالطا.

في رقاب هؤلاء الكتاب «ذنب» الإهمال الجسيم الذي وقع فيه عامة المسلمين والعرب (كعدم خروج مظاهرة عربية أو إسلامية واحدة تندد بإرهاب انتحاري قتل عشرات العراقيين المسالمين المصطفين أمام وزارة الدفاع في أكثر شوارع بغداد ازدحاما؛ ولم يندد إمام واحد فيها من فوق منبره!). وهؤلاء الكتاب مسؤولون عن ترويج المغالطة التاريخية بأن «احتلال» فلسطين والعراق وأفغانستان هو سبب هذا الإرهاب!

فالطالبان ذبحت الأطباء ولم يكن بينهم جنود احتلال، وقاتل ضحايا بغداد فجر القنبلة في شارع مزدحم بالنساء والأطفال العراقيين لا في ثكنات الجيش الأميركي.

كما أن الوقائع الموثقة تاريخيا أن الجماعات المتطرفة في مصر (التي كانت تتظاهر لتحجيب النساء، بينما الفصائل الأخرى تحارب الإنجليز لإخلاء قاعدة القنال)، وضعت القنابل في دور السينما والفنادق والمسارح والمحال التي تبيع ما يحرمونه، قبل الحرب العالمية بعشرة أعوام، و«ضياع» فلسطين بـ18 عاما، واحتلال أفغانستان بـ60 عاما والعراق بـ62 عاما؛ بل وأفتى إمامهم بتخليصهم «من هذا القاضي» لأنه حكم بسجن ثلاث سنوات على «مجاهدهم» الذي قتل الأبرياء في دار السينما، فنفذوا وصية «الإمام» باغتيال القاضي الخزندار أمام زوجته وأطفاله!

وحتى يجاهر المسلمون، وبخاصة العرب بينهم، بغسل أيديهم عن الجماعات الإرهابية والتظاهر علنا لاسترداد راية الإسلام منهم بدلا من تبرير الجرائم «بمشكلة فلسطين»؛ فلن تفلح ألف مقالة تندد بإسرائيل، حتى في صحفها العبرية، في إصلاح الصورة التي شوهها المتطرفون.