مطبات حفرها حزب الله أمام الحكم اللبناني

TT

المطبات التي حفرها أمين عام حزب الله أمام الحكومة اللبنانية، بمؤتمراته الصحافية الثلاثة، باتت واضحة المعالم والأهداف. وهي: اتهام المحكمة الدولية بالتسييس والخضوع للولايات المتحدة وإسرائيل، وبالتالي الرفض المسبق لنتائج التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري والشهداء السياسيين الآخرين، بل وفي القرائن التي قدمها في مؤتمره والموجهة نحو إدانة إسرائيل. فحتى لو وافقت الحكومة على إنشاء لجنة قضائية أو نيابية لبنانية - كما اقترح - للتحقيق في هذه القرائن، فهل يقبل بأن تتصل هذه اللجنة بإسرائيل للقيام بالتحقيق؟ أم هل ينتظر من إسرائيل أن تقدم لها أدلة تثبت صحة تلك القرائن؟! أم أن تسلم وثائقها إلى المحكمة الدولية، بعد سحب الاعتراف بها؟

هذا هو المطب الأول، أما المطب الثاني فهو تأجيل صدور أي قرار اتهامي، وبالتالي أي محاكمة، إلى حين حلول موعد الدفعة الثانية من نفقات المحكمة. فمن الأرجح، عند هذا الاستحقاق، أن لا يوافق وزراء حزب الله وحلفاؤهم على دفع الحكومة للمبلغ المستحق، فتفتح أزمة حكم كتلك التي حدثت منذ سنوات. ويتعطل عمل الدولة والمؤسسات الدستورية أكثر مما عطله اتفاق الدوحة.

أما المطب الثالث فهو التهديد بالفتنة في حال صدور قرار ظني قد يدين أفرادا في حزب الله، الأمر الذي حشر رئيس الحكومة اللبنانية بين احتمالين كلاهما مر بل وخطير. فإما أن يسلم الرئيس سعد الحريري بطي صفحة المحكمة الدولية متنكرا للحقيقة والعدالة والوفاء لوالده وللمبادئ التي رفعها مع فريق 14 آذار وصفق لها مئات الألوف من اللبنانيين، أكثر من مرة، في ساحة الشهداء.. وإما أن يعرض لبنان إلى أزمة وطنية وسياسية حادة، على الأقل، أو إلى فتنة داخلية، كما جاء على لسان أكثر من ناطق باسم حزب الله.

حسنا فعل رئيس الحكومة اللبنانية في رفضه الانجرار في الجدل السياسي المحتدم حول المحكمة الدولية. ولكن إلى متى يستطيع السكوت وتجنب اندلاع الأزمة؟ لا شك في أن واجبه الأول كرئيس للحكومة هو المحافظة على الاستقرار السياسي والأمني وعلى سير المؤسسات العامة والنظام العام. كما لا شك في أن اللبنانيين، في أكثريتهم الساحقة، لا يريدون التقاتل الطائفي ولا الفتن المذهبية ولا تحول لبنان إلى ساحة تصفية حسابات دولية وإقليمية على أرضه، وبواسطة أحزابه.. ولكن المأساة أنهم يعرفون أن أمرهم ليس في يدهم بل في يد قوى إقليمية ودولية متنازعة على السيطرة في منطقة الشرق الأوسط، وأن هذه القوى تستطيع فرض إرادتها أو خدمة مصالحها، على حساب الدولة اللبنانية.

كيف سيتمكن الحكم اللبناني، والرئيس سعد الحريري بالذات، من تلافي الوقوع في المطبات التي انفتحت أمامه؟ وما هي الخطوات التالية لحزب الله وحلفائه اللبنانيين والإقليميين، بعد المؤتمرات الصحافية الثلاثة التي تجاوز فيها الأمين العام «خط شرعية المحكمة الدولية الأحمر»؟ ما هو موقف سورية التي أعلن معظم أصدقائها في لبنان، تأييدهم لموقف حزب الله، بل هدد بعضهم بدخول الدبابات السورية مجددا إلى لبنان؟ وما هو موقف إيران التي أعلن مرجع كبير مسؤول فيها «لا شرعية» المحكمة الدولية؟ وأيضا، ما هو موقف الدول العربية من هذا المشروع النزاعي الجديد في لبنان؟

ما من دولة أو حكومة في العالم إلا وتتعرض لنزاعات وطنية وسياسية حادة بين أحزابها وأبنائها، تعالج وتحل ضمن المؤسسات الدستورية أو.. بالحسم العسكري، أو تتحول إلى حرب أهلية. ولكن «الحالة اللبنانية» قد تكون فريدة من نوعها في العالم والتاريخ، من حيث إن الحكم يضم فريقين مختلفين وطنيا وسياسيا وحزبيا، وأن أحدهما يمتلك قوة عسكرية تفوق قوة الدولة، وبالتالي قادر على تعطيل الحكم والمؤسسات وفرض إرادته على الأرض. وأن هذا الفريق يرفض تسليم سلاحه للدولة ما دامت إسرائيل قائمة وما دام الشرق الأوسط لم ترتسم خريطته السياسية والعقائدية كما يريد النظام الإيراني الحاكم وحلفاؤه في المنطقة.

في المحصلة: المحكمة الدولية التي كان من المفترض بها جلاء الحقيقة وتحقيق العدالة وصيانة السياسيين اللبنانيين من الاغتيالات، أصبحت، اليوم، مطبا مفتوحا أمام لبنان واللبنانيين، وعقبة في وجه الحكم اللبناني. وأداة ضغط تتناوشها الأيدي المتلاعبة بمصير لبنان.

وألف وداع للحقيقة والعدالة والاستقرار السياسي والوطني في لبنان.