الحذق و«الحداقة» وخطورة الخلط بينهما

TT

في أحيان كثيرة يكتشف اللاوعي الجمعي أن هناك مساحة أو سلوكا في التفكير ليس له ما يناظره في اللغة، عندها يلجأ إلى نحت كلمة جديدة ليست مقطوعة الصلة بالكلمة الأصل المشتقة منها. وهو من أجل ذلك ربما يلجأ إلى تعديل بسيط في الكلمة الأصل للحصول على المعنى الذي يريد إيصاله، عندك مثلا كلمة «حذق» بمعنى المهارة، والصفة منها هي «حاذق» نصف بها الشخص الذي يجيد عمله ويؤديه بمهارة. ولكن ماذا عن الشخص الذي يريد أن يوهمك بأنه حاذق وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك؟ هنا تتبدى عبقرية اللاوعي الجمعي البشري وقدرته على التلخيص والتكثيف، يمسك بالكلمة الأصل ويكتفي بأن يحذف منها نقطة فقط، وبذلك ينتج كلمة معاكسة ومضادة للكلمة الأصلية، مبقيا بذلك على التشابه بين الكلمتين، تاركا مهمة التمييز بينهما لوعي البشر.

منذ سنوات طويلة، كان من الطبيعي أن نستمع في الورش وبقية أماكن العمل جملة «بطل حداقة يا واد» يقولها الأسطى لصبيه معنفا، كثيرا أيضا ما كنا نصف بها هؤلاء الذين يتنكرون لأصول العمل والصنعة وعدم الإتقان، فنقول في استنكار: حداقة.

لم نعد نسمع هذه الكلمة كثيرا، ليس لأن الناس أقلعت عن ممارسة الحداقة واقتنعوا أخيرا بحتمية أن يكونوا حاذقين، بل لأن الحداقة كسلوك وأسلوب تفكير انتصرت على الحذق بالضربة القاضية أو ربما بعد جولات عديدة استطاعت الحداقة فيها أن توجه للحذق ضربات موجعة مستمرة فتمكنت بذلك من طردها خارج الحلبة، ليس من حلبة السياسة فقط، بل من سوق التفكير عموما.

سأعطيك مثالا شائعا، في أحد البرامج التلفزيونية العدوانية الناجحة - كل ما هو عدواني ناجح على الشاشة الصغيرة - قال المذيع لضيفه بلهجة اتهام حادة: أنت متعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين.

فأجاب على الفور بابتسامة لطيفة: نعم.

ثم أردف بعد ثانيتين أو أقل: ومتعاطف مع الإخوان المسيحيين.. أنا ضد الكفرة فقط.

كان الحوار يدور قبل ذلك عن علاقته بالإسرائيليين، الواقع أنه أحد أقارب الرئيس السادات من الدرجة الأولى، والمفروض أنه مؤيد لاتفاقية السلام، ومع ذلك طالب بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد، هكذا نتعرف على أهم ملامح الحداقة، إلى أين تتجه الموجة الآن.. ضد اتفاقية السلام؟ ماشي وأنا كمان ضد السلام.

هو متعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين، غير أن هذا الاعتراف العلني من الممكن أن يسبب له متاعب هو في غنى عنها، لذلك يضيف.. ومتعاطف أيضا مع الإخوان المسيحيين.

بالطبع هو على يقين من أنه لا توجد جماعة قائمة تسمى الإخوان المسيحيين بنفس المعنى والمقياس، هناك مسيحيون طبعا ولكن لا توجد جماعة إخوان مسيحيين، ولما كانت الحداقة تحتم أن يكون - وبكل ضراوة - ضد شيء، فقد اختار أن يكون ضد الكفرة، أي اليهود أو الإسرائيليين.. الحمد لله، لقد خرج من الموقعة سليما، هو مع المؤمنين المسلمين والمسيحيين، وضد الإسرائيليين (الكفار)، آخذا في الاعتبار أنه في اختياراته يمثل الأغلبية الساحقة من المشاهدين، المذيع الجريء أيضا لن يغامر بسؤاله: من تقصد بالكفرة؟.. هل تقصد اليهود؟

عندها سيرد بكل ثقة: لا.. نحن نحترم اليهود.. هؤلاء ليسوا يهودا.. هؤلاء صهاينة.

أنتقل الآن إلى نوع كارثي من الحداقة، هو الإعلام الحدق.. اقرأ معي العناوين التالية التي نشرت في الصفحة الأولى في جريدة حزبية.. الأسئلة المسكوت عنها داخل الكنيسة.. من يضمن وجود مخازن سلاح داخل الكنائس؟.. وما هي حقيقة وجود أنفاق ومطارات سرية في بعض الأديرة؟.. لماذا لا تخضع الكنائس للتفتيش؟.. وما طبيعة العلاقة بين رجال الكنيسة ورجال الأمن؟

محرر الموضوع لجأ إلى هذه الصيغة في العناوين لكي يجيب عنها بالنفي في الموضوع نفسه، هذه هي الحداقة الخطرة. في هذه المرحلة الملتهبة التي تشهد أحداثا طائفية في أشد الأماكن تخلفا وفقرا في مصر، عندما يقرأ التيار العام بين عوام القراء، وهم الأغلبية، هذه العناوين سيفكرون على الفور في أن الكنائس والأديرة المصرية، فيها أنفاق ومخازن سلاح ومطارات سرية. هكذا تكون الحداقة، في كتابة العناوين قد ذهبت بعقل القارئ في عكس الاتجاه لتحدث أثرا عكسيا. المحرر هنا نيته طيبة، والطريق إلى جهنم كما يرى البعض مفروش بالنيات الطيبة، لقد أراد أن يخمد نيران الطائفية فاستخدم في ذلك عدة عناوين أشبه بصفائح البنزين!

عقل الكاتب لا يجب أن يفقد الوعي بآليات التفكير في عقل القارئ، كان عليه أن يدرك أن عقول القراء عندما تكون ممتلئة بالشك والريبة في الآخر فسيفكرون على الفور بأن ما قرأوه هو حقائق، هذا هو ما سأثبته لك بعد لحظات.. بعد نشر هذه العناوين بعدة أيام انفردت صحيفة مستقلة بنشر العنوان التالي «ضبط سفينة تحمل متفجرات قادمة من إسرائيل» على صفحتها الأولى ويقول الخبر: «ضبطت أجهزة الأمن سفينة قادمة من إسرائيل تحمل مواد متفجرة مخبأة في الحاويات لإدخالها للبلاد، وألقت مباحث أمن الدولة القبض على مالك السفينة ويدعى جوزيف بطرس الجبلاوي نجل وكيل مطرانية بورسعيد، وقررت النيابة حبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات في القضية رقم كذا، وقرر قاضي المعارضات إخلاء سبيل المتهم بينما قرر المستشار عبد المجيد محمود منع المتهم من السفر إلى خارج البلاد».

ويمضي الخبر الذي لم تنشره جريدة أخرى يقول: «.. بينما قدم نبيه الوحش المحامي بلاغا للنائب العام يطلب فيه تفتيش مطرانية بورسعيد والكنائس التابعة لها، حيث إن المتهم يعتقد أن المطرانية غير قابلة للتفتيش ويخفي المواد المتفجرة في داخلها».

خبر مفزع من كل الوجوه، لأنه يربط بين عناصر ثلاثة يستحيل واقعا وعقلا الجمع بينها، هي: إسرائيل والمتفجرات ومطرانية بورسعيد والكنائس التابعة لها، ثم قضية يرفعها محام يطلب فيها تفتيش الكنائس. وفي اليوم التالي يصرح مصدر مسؤول بأن المتفجرات المهربة ليست متفجرات بل ألعاب نارية (بمب - أي مفرقعات أطفال - وصواريخ لبيعها للأطفال في العيد)، والتاجر الذي قام بتهريب هذه الألعاب النارية، تصادف أن كان مسيحيا كما تصادف أن كان ابن وكيل مطرانية بورسعيد. ما صلة ذلك بالقضية ذاتها؟ وما هي صلة ذلك بالكنائس لكي يتقدم المحامي بطلب لتفتيشها؟ لاحظ أنني لم أذكر أسماء الجرائد، لأنني أناقش فقط طريقة عمل في الإعلام تفتقر كلية إلى اليقظة والحذر، نحن نصرخ ليل نهار مطالبين سائقي الشاحنات والميكروباصات باليقظة والحذر على الطريق بعد أن تجاوز عدد قتلى الحوادث في مصر عدد قتلى الحروب، أما الحداقة في الإعلام، وانعدام اليقظة والحذر، فلا أعتقد أن ذلك يثير اهتمام أحد.