التباهي بالتباهي

TT

كتبت مرارا أن الفساد مرتبط بالنظام الرأسمالي. فالماكينات يجب أن تستمر في الدوران وتنتج، وعلى المدير أن يجد أسواقا لمنتجاتها. ينجح في ذلك بحمل الجمهور على الشراء والاستهلاك ونبذ القديم، هداهم ذلك لظاهرة الموضة وغرسها في النفوس. عيب على البنت أن تلبس نفس فستان العام الماضي. يتطلب ذلك سيلا مستمرا من الفلوس للشراء والشراء والشراء. من أين تحصل المرأة الفقيرة على هذه الفلوس؟ من بيع جسمها أو حمل زوجها على السرقة والرشوة.

صبت الروح الاستهلاكية في محصلة التباهي. كنت جالسا في مؤخرة أحد الباصات في القاهرة، وبجانبي إحدى السيدات المحجبات، نظرت إلي فتصورت أنني أحد سراة الخليج. رفعت رأسها ونادت على الجابي في مقدمة الباص، وصاحت بأعلى صوتها: «يا كمساري، وحياتك تقول لي التذكرة كام دي الوقت؟ أصل أنا عمري ما ركبتش الأوتوبيس!».

ذهبت مع صديقي لتناول العشاء في أحد المطاعم، لاحظت امرأة وضعت جوّالها عل الطاولة. وكان الجوال يرن من حين لآخر بأغنية لفريد الأطرش أزعجتني كثيرا. سألت صاحبي: لماذا لا تجيب السيدة على التليفون وتتركه يرن ويرن، لماذا لا تغلقه إذا كانت لا تريد أحدا يزعجها بمكالمة؟

«لأ يا أبو نايل، الفكرة هي أن تلفت الأنظار إلى أنها بنت ذوات وعندها تليفون جوال. الجوال غال في مصر وتكاليفه باهظة!».

يظهر أن الست سمعتنا، فبعد قليل مدت يدها وأغلقت التليفون. في أوروبا، تحتل بولندا هذه الأسبقية، وفيها وصلت روح المباهاة الاستهلاكية إلى أوجها في تحولها إلى مستنقع من الفساد والتحلل الخلقي. شاع فيها مؤخرا البغاء في المولات، على حد ما وصفته صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، تخرج الصبايا ويتجولن في المولات ويقعن في حب طراز جديد من أحذية «جيمي تشو» أو كاميرا صغيرة من «كوداك».

تهيم بها البنت دون أن تجد في جيبها المبلغ الكافي للشراء، تنظر حولها بحثا عن أي رجل غني قوي البنية، فتتسلل إليه، كلمة منها وكلمة منه وتتم الصفقة، يشتري لها الحذاء وتعطيه جسمها في غرفة الاستراحة. وفطن مالكو المول إلى حاجة الفتيات لمثل هذه المرافق المتسترة (غرفة استراحة)، فما يهم المول هو تسويق البضائع لا ما يجري في هذه الغرف. سرعان ما تحول هذا النمط من التسويق الاستهلاكي إلى ظاهرة شائعة. لا يسمونها بغاء، وإنما تبنيا (سبونسرشب). الرجل يتبنى الفتاة لبضع دقائق، يشتري لها ما تريد، وتعطيه ما يريد. وظهرت معاهد تعلم الصبايا كيف يكتشفن الرجل المناسب للتبني، يقولون لهن انظرن لحذاء الرجل. ففي هذا الزمن غدت مكانة الرجال تتجلى في أحذيتهم. عندنا في العراق تتجلى مكانة الرجل في عدد الحراس الذين يحرسونه، ولكنهم في الغرب يعرفونه من حذائه. الرجل يتباهى بحذائه، والمرأة تتباهى بشنطتها. فارغة كانت أم مليئة.