الله يحب البرازيل

TT

يقبل البرازيليون بعد أسابيع على إجراء انتخابات رئاسية، تبدو محسومة في اتجاه التصويت للمترشحة اليسارية، التي يزكيها الرئيس الحالي إيناسيو لولا دا سيلفا. إذ إن السيدة ديلما روصيف، المعارضة الراديكالية السابقة (وصلت إلى حد حمل السلاح) تتفوق على منافسها المباشر الاشتراكي الديمقراطي، جوزي صيرا، بإحدى عشرة نقطة، مما يؤدي بالمتتبعين إلى التكهن باحتمال انتخابها لرئاسة الجمهورية دون حاجة إلى جولة ثانية ترجيحية.

ويحمل على التكهن بهذه النتيجة، أن استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة «إيبوبي» التي لم تخب استطلاعاتها قط منذ عقود، أفرز أن 78% من البرازيليين يعتبرون أن حكومة الرئيس لولا في الولايتين كانت جيدة. بينما اعتبر 18% أنها كانت متوسطة، وقال 4% فقط أنها كانت سيئة. ومعنى هذا أن التصويت في الانتخابات القادمة هو لفائدة الاستمرار، كما لو أن الأمر يتعلق بتجديد ثالث للرئيس الحالي، الذي لم يحظ بمثل شعبيته من قبل سوى جوسيلينو كوبيتشيك.

ومما يزكي هذه التأكيدات أن الظهور التلفزيوني لكل من المترشحة ديلما روصيف، والمترشح جوزي صيرا، لعرض برنامجهما الانتخابي، كان فيه المترشح الاشتراكي الديمقراطي متفوقا من الناحية الفكرية. وقد وصفت الصحف تدخله بأنه كان أكثر حيوية وذا عبارات مباشرة، بينما قيل عن منافسته إنها تقاسمت حصتها التلفزيونية مع زعيمها لولا. ولم تتميز ديلما، سوى بتوليها منصبا وزاريا في حكومة الرئيس الحالي. ولم يكن في وسعها أن تستعرض سوابق حافلة مثلما فعل صيرا الذي ذكر بماض لامع، من محطاته توليه منصب حاكم ولاية ساو باولو التي تمثل تقريبا نصف الإنتاج الوطني الخام للبرازيل. وأما من حيث البرنامج فإن المتنافسين يتشابهان إلى حد بعيد.

ويمكن أن نشير إلى أن المركز الثالث في ميول الناخبين تحظى به سيدة أخرى وهي مارينا سيلفا مرشحة الخضر. ويتقاسم الثلاثة الخريطة الانتخابية على الشكل التالي. ديلما 51% وصيرا 38% ومارينا 10%. وبهذا يحتكر اليسار عمليا كامل المشهد الانتخابي، ولا يبقى إلا 1% لبقية المترشحين كلهم.

وهو يسار لا يبعث على القلق. فقد أمضى لولا، مثل سلفه الاشتراكي فيرناندو هنيركي كادوزو، ولايتين متتاليتين وهو يحكم مع اليمين، لأن النسق الانتخابي البرازيلي يؤدي إلى تحالفات غير أرثوذكسية. وهذا ليس أمرا جديدا في برازيل ما بعد العسكر، حيث فاز في منتصف الثمانينات تحالف بين تانكريدو الديمقراطي المعارض وصارني اليميني المنبثق من حزب شكله العسكر لحشد الموالين لهم. وحدثت مفاجأة أثناء السير، حيث إنه قبيل التنصيب توفي تانكريدو وأصبح صارني هو الرئيس الذي أكمل ولاية ناجحة كان سندها في البرلمان هو حزب تانكريدو الذي قاد معارضة العسكر.

وهكذا فإن الانتقال الديمقراطي، في أكبر ديمقراطية في أميركا اللاتينية، قد كان ثمرة توافقات، من النوع الذي يحتاج إلى ضبط عقلاني للمهام، وروح رياضية تقبل المفاجآت بتلقائية. وتأكد طيلة العقود الثلاثة، أن الله يريد خيرا بالبرازيل.

لقد كان فيرناندو هنريكي، رجل علم الاجتماع البارز، متيقنا من أن الشعب البرازيلي سيصوت لصالح لولا كخلف له. ولهذا فإنه في وقت حاسم سابق للاقتراع، دعا المترشح العمالي إلى قصر الرئاسة وأخبره بالالتزامات التي قطعتها الحكومة أمام صندوق النقد الدولي بشأن التقويم الاقتصادي. وبينما كان البعض يتصور أن السياق الانتخابي قد يملي على لولا سلوكا شعبويا، فاجأ الزعيم العمالي المتشككين، بأنه سيلتزم بتطبيق تعهدات حكومة فيرناندو هنريكي، لإنقاذ اقتصاد البلاد. وقال إنه يريد تطبيق برنامج اجتماعي قوي لخصه في شعار بسيط: أريد أن يصبح في إمكان البرازيلي أن يتناول ثلاث وجبات في اليوم.

وفي الثماني سنوات التي مرت تحررت البرازيل من كابوس التضخم، وقطعت أشواطا في التقويم الاقتصادي، وفرضت احترامها على المجتمع الدولي، الذي كان يسخر من البرازيل لكونه بلدا يسعى، منذ أكثر من مائة عام، ليثبت أن له مستقبلا. والآن تحت قيادة زعيم نقابي، ها هي البرازيل قوة اقتصادية واعدة ومبشرة بأن تصبح عضوا دائما في مجلس الأمن. وهذا ما يسمح للمترشحة ديلما روصيف بأن تختصر برنامجها في كلمتين: سأتابع الطريق.

وتاريخ البرازيل سلسلة من المفاجآت السعيدة. ويمكن القول إن أكبر التغييرات التي اجتازتها قد تمت دون جلبة، بما في ذلك الاستقلال الذي تحقق في 1822 بما يشبه الصدفة. كل بلدان أميركا اللاتينية تحتفل هذه الأيام بمرور مائتي سنة على استقلالها من إسبانيا، عبر حروب مريرة مع الميتروبول. أما البرازيل فإن صدف التاريخ جعلت استقلالها حدثا قليل التكاليف. فحينما تعرض البرتغال للاحتلال النابليوني اضطرت العائلة الإمبراطورية إلى أن تنتقل إلى البرازيل وتقيم هناك البلاط الذي يحكم كلا من البرازيل والبرتغال. وبعد التحرر من الاحتلال الفرنسي عاد ضون جواو السادس رئيس العائلة الإمبراطورية إلى لشبونة، وبقي ابنه ضون بيدرو وصيا في ريو دي جانيرو. وبعد نحو عامين أمر برلمان لشبونة الأمير الوصي بأن يعود إلى البلاد، لتعود مقاليد الأمور إلى العاصمة الإمبراطورية. وفي غمرة ذلك كانت البرازيل قد أصبحت هي بلاد الأمير الوصي. وأصبح هناك من التجار والأوليغارشية المحلية من يرى أنه من الممكن الحيلولة دون العودة إلى وضع المستعمرة من جديد. وتضافرت تطورات سريعة تشبه مسلسلا روائيا، يتصدره ضون بيدرو، وهو يطلق يوم 22 سبتمبر (أيلول) 1822 في مشهد مهيب «صرخة الاستقلال».

وكذلك كان أيضا إعلان الجمهورية في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1889. كان ضون بيدرو الثاني هو الملك. وقد اشتهر بولعه بالأدب والعلم مما أدى به إلى ترؤس أكاديمية العلوم والأدب بفرنسا. وكان في مجلس أدبي في مدينة كان حين وصله خبر صدور مرسوم يقضي بإلغاء الرق وقعته ابنته ضونا أيزابيل التي تركها وصية على العرش في مدة غيبته. وفي هدوء تراءى للأوليغارشية وبعض الماصونيين أن يعلنوا الجمهورية في البرازيل. فكان لهم ذلك، وفرضوا نظاما متشددا أطلق عليه المؤرخون «جمهورية السيف». وانطبع في أذهان البرازيليين منذئذ أن الجمهورية ترادف الأوتوقراطية. إذ تولى الرئاسة غالبا عسكريون يمتشقون السيف، أو شعبويون يتزايدون فيما بينهم على حساب المنطق والمصلحة. وظلت الجمهورية مفروضة بالقوة إلى أن قرر البرازيليون بهدوء منذ 17 عاما، وبالضبط في 24 أبريل (نيسان) 1993 في استفتاء شعبي أن يختاروا الجمهورية بدلا من الملكية.