سكوت.. نحن نقرر مصيركم!

TT

في مدينة سويسرية صغيرة جدا وسط جبال الألب المرتفعة، وفي برج متوسط الارتفاع بوسط هذه المدينة، وفي هذا البرج بغرفه البيضاوية التي تتكون من جدران بلا نوافذ، تنعقد الاجتماعات السرية والغامضة التي ستقرر مصير التشريعات والسياسات الرقابية للمصارف والبنوك والمؤسسات المالية حول العالم. مجموعة بازل للرقابة المصرفية، هذا هو الاسم الرسمي للمجموعة، المجتمعة الآن بمدينة بازل السويسرية والمكونة من مراقبي ومشرعي المصرفية الرسمية حول العالم، هذه المجموعة تستعد وتحضر نفسها وبشكل مكثف لإصدار مجموعة من القرارات المهمة لضبط التداول المالي حول العالم. ومن أهم القرارات التي ستقوم المجموعة بإصدارها، كم سيكون مقدار وحجم الأموال التي سيصرح للبنك بالإبقاء عليها كاحتياطي ضد الخسائر كإجراء وقائي، وهذا أحد أهم العوامل التي من الممكن تبيانها لمعرفة قدرة البنوك على تحمل الهزات والتحديات والعثرات والكوارث المالية. وكل هذا الحراك يأتي تباعا للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية الكبرى، التي شهدت سقوط الكثير من الشركات والمصارف والكشف عن تجاوزات إدارية وفساد مالي كبير طال بنوكا مركزية وبنوكا تجارية ومسؤولين وشركات مساهمة وحكومات كبرى لا يزال العالم حتى الآن يحاول النهوض مما أصابه والاستفادة من الدروس التي حدثت لمنع تكرارها مستقبلا مرة أخرى.

الاجتماع «الغامض» الذي ينعقد في جو من الغموض والسرية وعليه محاذير هائلة تمنع كل المشاركين من التحدث للصحافة بكل أشكالها حتى التواصل الإلكتروني هو الآخر ممنوع، هذا مع العلم بأن رجال الصحافة والإعلام لم تتم دعوتهم لحضور الاجتماع! وفي محاولة من هذه المجموعة لأن تجعل المناخ المصرفي أكثر أمانا وأقل مخاطرة، فهي في حقيقة الأمر تزيد صعوبة أن يمول البنوك القروض للعامة وللشركات بزيادة الشروط الرقابية عليهم، وأن المجموعة تعتقد أن التساهل الذي كانت عليه البنوك في سياساتها الإقراضية هو الذي تسبب في الكارثة المالية التي يعاني منها العالم اليوم، وبالتالي «المناخ المصرفي الآمن» سيعني أن البنوك ستجد صعوبات هائلة في الإقراض، ومن ثم لن تتمكن من تحقيق الأرباح الكبرى التي تعودت عليها، وستزيد تكاليف الحصول على بطاقة اعتماد ورهن عقاري وعقد تمويل سيارة أو قرض شخصي وكل أشكال التمويل الاستهلاكي، لكي «تعوض» البنوك ما فقدته من التمويل التقليدي الكبير، وبالتالي سيعاني قطاع الأعمال الذي لن يتمكن من التوسع في الاقتراض المالي. وعليه لن تكون هناك فرص جديدة للتوظيف.

المشرعون والرقابيون على البنوك لديهم قناعة بأن البنوك تتحمل أسباب نتائج وأسباب الكارثة المالية التي أصابت العالم نتاج الفساد والخلل الإداري الذي تمكن منها، وكشفت بسبب ذلك المفاجآت التي بينت وجود رشاوى وقروض وهمية وغسيل أموال وتقييم مبالغ فيه للضمانات، وغير ذلك من الكوارث الإدارية. فهناك تقرير تم إخراجه من مجموعة بازل يقول إن إبقاء مبالغ أكبر، كاحتياطي لدى البنوك سيساعد النمو الاقتصادي على المدى الطويل، وتحديدا بسبب أنه سيساعد على تفادي الركود الاقتصادي الطويل، وفي الوقت ذاته، خرج المعهد الدولي للمال، وهو المؤسسة المحترمة والمؤثرة بتقريره الخاص هو الآخر، الذي قال فيه إن القرارات المنتظر إصدارها من مجموعة بازل سيكون نتاجها بطئا شديدا في النمو الاقتصادي الدولي ووظائف معدومة جدا! وتناقض تام ورؤية مختلفة.

الصراع بين البنوك والمراقبين والمشرعين شبه بأنه أشبه بلعبة «توم وجيري» والمطاردة والملاحقة المستمرة، فريق يريد أن يضيق على الآخر، وفريق يريد أن يتحايل على المضايقات الجديدة، وكلما تحايلت البنوك على القيود المفروضة عليها، فكر الفريق الآخر في قيود جديدة! البنوك الدولية شاركت ولا ريب في حصول الأزمة الاقتصادية العالمية، وذلك بعدم فتح ملفاتها ومحاسبة المقصرين في مجالس إداراتها وموظفيها بشفافية وقوة وحزم، وستكون على موعد مع أزمة جديدة مستقبلا، ولكن سيظل العالم المصرفي حابسا أنفاسه حتى تخرج القرارات النهائية من الصندوق الأسود المجهول الغامض المسمى بمجموعة بازل!

[email protected]