عتاب مع الصحافي غازي القصيبي

TT

غافلني غازي القصيبي. سافر. رحل سريعا، من دون أن يترك لي فرصة المشاركة في الوداع، مع سائر الزملاء الذين رثوه في صحيفته المفضلة «الشرق الأوسط». وأنا عاتب على القصيبي المسافر. وعاتب عليهم. ربما لم يعرفوا أن علاقة القصيبي مع الناس امتدت إلى زميل لهم في باريس. فآثروا عدم إحراجه بمشاركتهم في رثائه.

عرفت غازي القصيبي منذ عقود طويلة. بدأت العلاقة بتفضله بإهدائي بعض كتبه. وأذكر أني أرسلت إليه رسالة رقيقة شاكرا. ومن عادتي أني أتمهل في قراء الكتب التي تهدى إليّ. أفضل الكتب التي أشتريها. لكن الصحافي الذي اكتشفته في غازي القصيبي أقنعني بالعودة إلى قراءة ما تبقى لدي من إنتاجه الذي سلم من مشقة الانتقال من بلد إلى بلد، أو من بيت إلى بيت.

أدهشني وفرة إنتاج القصيبي. بت أحسده أنا الذي، إلى الآن، لم أنتج كتابا واحدا. أخاف من «الرقابات» العربية أن تضيِّع علي وقتا أنفقه في كتاب لا يحمل «فيزا الدخول». كان القصيبي متفائلا. ظل يكتب. ويكتب. وهو يعرف أن بلده سيفتح عينيه يوما ليقرأه، قبل أن يغمض هو عينيه.

لن أسهب في الحديث عن القصيبي الشاعر. الأديب. المثقف. السفير. الوزير. فقد سبقني إليه زملاء. وأدباء. ونقاد. إنما أريد أن أتمهل عند الصحافي غازي القصيبي. إذا كانت الأزمات والأحداث محك الرجال. فهي أولا امتحان كبير للصحافيين والكتاب في الموقف. في الرأي. في الشجاعة. في أسلوب المعالجة. في تقنية الأداء.

في الأيام العصيبة التي سبقت حرب عام 1967، قاتل هيكل على صفحات «الأهرام» بأكفأ مما قاتل جيش على صفحات الرمال، قد تختلف مع هيكل في السياسة. لكن كم أتمنى أن تدرِّس كليات الصحافة طلبتها «تكنيك» الأداء المهني في صفحة «الأهرام» الأولى، فقط في الأيام القليلة السابقة للحرب. غطى الصحافي هيكل رئيسا. ونظاما. وجيشا. وهو لعله يعرف، سلفا، أن مصر ستخسر حربا لم تستعد لها. ولم تعرف قيادتها كيف تديرها.

غطى الصحافي القصيبي حربا كان مؤمنا بأن العرب سيكسبونها. والغادر سيخسرها. شجاعة القصيبي تجلت في حمل قلمه سيفا، وصدام في ذروة نصره، محتلا الكويت. مهددا السعودية، في وقت ظنت فيه دول وساسة أن ما أخذ بالقوة، لن يسترد بالقوة. أو بالسياسة.

لم ينتظر القصيبي هزيمة صدام ليكتب، كما فعل آخرون. هنا، في أعلى الصفحة، سجل غازي القصيبي، «في عين العاصفة»، موقفا قويا رائعا. تقدم مختارا. وليس مدفوعا. منتصرا بوفاء للسعودية بلده الكبير، في رفض العدوان على بلد شقيق صغير (الكويت). في تقييمه الوطني، دافع القصيبي عن خليجه، انتصارا لقوميته. لعروبته. في تقييمه السياسي، أدرك القصيبي أن العالم لن يرضى بصدّام المناور محتكرا للطاقة النفطية التي تقوم عليها الصناعة والحضارة الإنسانية.

في عتابه القومي لصدام يقول القصيبي الشاعر:

جيشَنا كنتَ. أجب يا جيشَنا

كيف ضيعتَ إلى القدس طريقا؟!

هل كان القصيبي مخطئا في كشف صدام باكرا؟ هل يستحق هجوم بعض القوميين والإسلاميين عليه؟ كتب القصيبي منبها، سلفا، إلى أن صدام سيضيع عروبة العراق. وأثبت التاريخ صحة رؤيته وموقفه. يكفي أن أقول إن صدام لو قبل بمشروع الاتحاد مع سورية (1979)، لضمن، حتى في المنطق الطائفي، أغلبية «سنية» حامية لوحدة العراق وعروبته، من تبجح أميركا بوش وأتباع إيران الذين يحكمونه اليوم، بأن غالبيته «الشيعية» تجيز لهم انتزاعه من حضن عروبته!

الهزائم والنكسات لم تكن كافية لإقناع الحركات القومية العربية بمراجعة التجربة، بما يكفي للتأكيد بأن لا عروبة بلا حرية. ولا وحدة بلا ديمقراطية. سبع سنوات مضت على احتلال العراق. لم يصدر، إلى الآن كتاب موضوعي، أو بحث علمي أو أكاديمي، يحلل تجربة صدام في حكمه. في حروبه. في تعريضه العراق لكارثة الغزو التي تركت الخليج والأمة العربية مهيضة الجناح، أمام الأعداء من كل جانب.

هذا عن عروبة غازي القصيبي. ماذا عن حرفيته الصحافية؟

«في عين العاصفة»، كان صحافيا في خندق أمامي. لم يسجل كلاما كثيرا. كانت كلماته رصاصات سريعة. دقيقة في إصابة الهدف. موجعة في صراحة منطقها. لم يوفر القصيبي أحدا. وبالأسماء. وفي واقعية شجاعة.

في تقنية الصحافة، الزاوية (التي أجاد القصيبي كتابتها) أصعب من المقالة. الزاوية تفضح الكاتب غير المتمكن. قالت العرب قديما: «البلاغة الإيجاز». و«خير الكلام ما قل ودل». كان بهاء ومصطفى وعلي أمين كتاب زاوية، فيما تجنبها التابعي وهيكل، لأن جملتهما طويلة.

في معركته مرشحا لإدارة «اليونيسكو»، واجه القصيبي عداء إسرائيليا ويهوديا عالميا متغلغلا في المنظمة الدولية. كما واجه منافسة عربية. عشرة منافسين بينهم ثلاثة من العرب. واحد من العرب كان مرشح بوركينا فاسو عن منظمة الوحدة الأفريقية. خاض القصيبي معركته تحت شعار «صداقة الحضارات». كان يراهن على أن «الحضارة العربية الإسلامية مستعدة للتعايش في سلام مع حضارات وثقافات العالم».

وكتبت، مع كثيرين من الزملاء، مؤيدا القصيبي. رد شاكرا. ثم أتيح لي حديث طويل معه، خلال حفل أقامه الصديق الشيخ فيصل الحجيلان سفير السعودية في باريس آنذاك (1999). تعرف فيه القصيبي على نخبة من المثقفين والساسة والدبلوماسيين الفرنسيين.

خسرت اليونيسكو مثقفا عربيا تمتع بأفق واسع وكفاءة إدارية. لم تزعج الخسارة القصيبي. اكتفى بالقول إنه حان الوقت لكي يكون مثقف عربي على رأس منظمة عالمية للثقافة والتربية والعلوم. كان القصيبي خصما شريفا. لكن لم ينحن. لم يتراجع. لم يقدم تنازلات لإسرائيل. أو اعتذارات لليهودية العالمية التي حاربته سفيرا ومرشحا. وكان القصيبي خصما نبيلا. كان ضد غزو أميركا للعراق. بل رفض مقارنة صدام بهتلر.

لم أعد أنتظر كتب الإهداء. كنت كلما عرفت أن القصيبي أصدر كتابا، بحثت عنه في مكتبات الغربة، أو أوصيت لاستيراده من مكتبات الوطن الكبير. لم تمنع المناصب التي تقلدها القصيبي من رصده لدبيب الحياة العربية على الأرض في مختلف توجهاتها، شاعرا يناجي رومانسية إبراهيم ناجي. فخورا بالمتنبي. معترفا بشاعرية نزار قباني.

يسافر القصيبي. يرحل. يترك في الذاكرة براءة الطفل في ابتسامة وجه صبوح. في كتبه، تذهلك صراحة الاعتراف. في «حياة الإدارة»، يقول إنه تعلم من أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز كيف يقرأ التقارير بسرعة موفرة للوقت.

كان القصيبي أوسع من الحياة. تحرك بقدر ما تسمح الضوابط. إن اعترض عاد فاقتنع. إن تمرد عاد فرضي. إن دعاه الواجب لبى النداء. لم يغير القصيبي الدنيا. حاول. غادر باكرا. يكفيه نبلا ووفاء أنه نصح.