راديو 3 يستفتح بالعراق

TT

اعتدنا على انتقاد الإنجليز على انطوائية وسكسونية ثقافتهم وبصورة خاصة تجاهلهم لثقافات الأمم النامية. كان ذلك في العهد الإمبراطوري. ولكن العجيب أنهم ما إن فقدوا الإمبراطورية حتى بدأوا باستيراد وترويج ثقافات من كانوا خاضعين لهم. من قنوات هذا الاتجاه «راديو 3» من «البي بي سي». دأب هذا القسم الجاد من الإذاعة بتخصيص ساعات لبث موسيقى وأغاني وأشعار الشعوب النامية، وكان من مبادرات هذا القسم إقامة «أكاديمية المسالك العالمية»، ضمن منهج يتضمن توريد فنون الشعوب النامية وتشجيعها بفتح المجال أمام فنانيها بدعوتهم لبريطانيا ودول أخرى لتقديم ما عندهم من نتاج وبث ذلك على القنوات الإذاعية والتلفزيونية. والظاهر أن مديري الأكاديمية رأوا في العراق خير بداية لهذا النهج.

هكذا جاءوا بالموسيقي والمطرب الشهير إلهام المدفعي وفرقته من سبعة آلاتية محترفين. شاركه في العرض وبرز بينهم عازف العود خيام اللامي الذي سحرنا بانتقاله من كلاسيكيات المقام الهادئة إلى ارتجالات تتدفق بالحياة وبالإبداع والاختراع. إلهام المدفعي معروف بمزج سنن الموسيقى الغربية (بدليل اعتماده القيثار في عزفه) وفرضها على الموسيقى الشرقية الإسلامية. وأقول الإسلامية لأن فنون المقام محصورة في الواقع بالشعوب المسلمة، اللهم باستثناء اليونان. وتستوحي دائما تلاوات القرآن الكريم والموشحات الدينية.

من أسرار النجاح النجومي لإلهام المدفعي واستئثاره بقلوب العراقيين تطويره للأغاني الشعبية والفولكلورية العراقية وتضبيطها بإيقاع رهيب راقص وبالتالي الارتقاء بها إلى المستويات العالمية للموسيقى الرائجة.

يضربني طول الليل بالخيزرانة

روحوا اسألوا الجيران شمسوية آنا؟

استمعنا لكل ذلك في الحفلة الكبرى التي قدمت في تلك القاعة التاريخية الشهيرة، قاعة «ألبرت هول» بلندن وفي إطار برنامجها السنوي المعروف بالبرومينادة. هذه قاعة تستوعب آلاف المشاهدين. ما كنت أتوقع قط أن يملأها إلهام المدفعي في ساعة متأخرة من الليل. ولكنه ملأها وأكثر. لم تكن العراقيات فقط يستجبن لأغانيه بالهز والرقص، بل شاركتهن في ذلك الكثيرات من العرب والأجانب.

كان «راديو 3» قد نقل الحفلة مباشرة على الهواء. استمعت لتسجيلها بعد عودتي للبيت. سمعتها ثانية وخطر لي شيء واحد من باب النقد، وهو أن إلهام المدفعي كفيروز في رأيي لا يحسن التعامل مع النطق العربي لكلمات الأغنية، وهو العنصر الذي تميز به جل المطربين العرب من سيد درويش إلى أم كلثوم ومحمد القبانجي وحضيري أبو عزيز. الشعر ديوان العرب. وهذا يعطي الكلمة أسبقيتها على النغم، بيد أن المدفعي يضع النغم فوق الكلمة. ولكن الكلمات في آخر المطاف هي التي هزت أفئدة الحاضرين. ياما وياما سالت من دموع واهتزت رؤوس وارتفعت أعلام وضجت عواصف من الهتاف والتصفيق كلما جاء ذكر بغداد وورد اسم العراق. تسمع فلا تتمالك غير أن تتساءل، إذا كان هذا ما تشعرون به تجاه بلادكم وعاصمتكم، فما بالكم وما خطبكم؟ كيف خربتم هذا البلد الذي تعشقون؟

ففي آخر المطاف ما خرب العراق غير أبنائه.