حروب الدراما الرمضانية

TT

في كل موسم رمضاني تولد دراما موازية للدراما التي تعرض على شاشات التلفزيون. دراما الاعتراضات والهجمات على البرامج والمسلسلات، إما بدوافع حزبية أو سياسية أو آيديولوجية، أو حتى شخصية عائلية.

تعودنا ذلك منذ أن تحول شهر رمضان إلى أكبر وأثرى فصل تعرض فيه زبدة الأعمال الدرامية والكوميدية والتاريخية في السوق العربية.

لذلك، لم يكد الأسبوع الأول من رمضان ينصرم حتى انشغلت الصحف والمواقع الإنترنتية والفضائيات بتصريحات هجومية على بعض هذه الأعمال.

في المقدمة، كانت هجمات قيادات وشباب من جماعة الإخوان المسلمين المصرية على مسلسل «الجماعة» الذي كتبه السينارست والمؤلف الدرامي الشهير وحيد حامد، وللأمانة لست مؤهلا للحكم على هذا المسلسل، أولا لأني لم أطلع سوى على حلقة منه، وثانيا لأن المسلسل لم يصل إلى صورته الكاملة بعد، ولكن حسب ما قرأت من كلام حوله، قبل رمضان بفترة، ثم حسب سؤالي لمن أثق بعقلهم ممن شاهدوا كل ما عرض من المسلسل حتى الآن، فإن المسلسل لم يكن حسبما روجت له الدعاية الإخوانية قبل حتى أن يبدأ عرض المسلسل، من أنه ممول من قبل أجهزة الأمن المصرية لتشويه صورة «الإخوان»، بل على العكس فقد قدم المسلسل صورة «طبيعية» وواقعية لـ«الإخوان»، حسب رؤية من شاهده ممن سألتهم، فلم يقدم شخصية البنا وبقية رموز «الإخوان» بشكل شيطاني رخيص كما يتمنى غلاة الأعداء، ولا هم بصورة ملائكة أنقياء بلا نوازع شخصية كما تقدم دعاية «الإخوان» صورة حسن البنا والبقية.

على كل حال، لا يمكن الحكم بشكل موضوعي إلا بعد مشاهدة حلقات المسلسل كاملة، ولذلك فإن الهجوم المبيت أو حتى المديح المبيت لمسلسل «الجماعة» نوع من العمل السياسي الموجه الذي لا علاقة له بتقديم حكم موضوعي.

قل الشيء نفسه عن مسلسل مصري ضخم هو «شيخ العرب همام» الذي يتعرض لشخصية مهمة في تاريخ الصعيد المصري السياسي والاجتماعي، هو الأمير همام بن يوسف الذي حكم منطقة كبرى من صعيد مصر في فترة حساسة من نهاية حكم المماليك وفتنة العثمانيين ثم حكم الضابط الألباني محمد علي.

المسلسل أثار الجدل قبل عرضه، فرأى فيه بعض مثقفي الصعيد مسا بهم، ورأى فيه بعض من أبناء «الهوارة» وأحفاد همام أنه تناول جاهل لتاريخ الرجل الخطير، بينما رأى فيه بعض المعارضين المصريين «إسقاطا» على واقع الحال السياسي المصري.

بينما لم يسلم المسلسل الكوميدي السعودي «طاش» من نصيبه السنوي المعتاد من النقد والهجوم، سواء من بعض الخطباء ووعاظ الإسلاميين، أو حتى من بعض ضيقي العطن من الكتبة العاديين، بذريعة أنه يمس بالثوابت، بل وصل الحال ببعض خطباء الإسلاميين للدعوة إلى «محاكمة » أبطال العمل!

ليس من المهم هنا التفاصيل، أو تصويب «كامل» هذا العمل أو ذاك، فهو في النهاية عمل بشري مبني على «بحث» وتجميع، ثم «رؤية» نسبية معينة ومقاربة محددة للخروج بهذه الصورة، المهم هنا السؤال: لماذا هذا الضيق العربي العام بالعمل الدرامي والفني بشكل عام؟!

ربما كان السبب حداثة عهدنا بفنون المسرح والسخرية الحديثة، فهم تعرفوا على المسرح الساخر حديثا بعد عدة سنوات من حملة نابليون 1798، وكانت أول محاولة لتأليف مسرحية هزلية على يد الصحافي والكاتب المصري المتعدد المواهب يعقوب صنوع ظهرت في القاهرة سنة 1872، وتعرض صنوع، رغم عظم مكانته الاجتماعية ورغم أصوله الأوروبية، لتذوق مرارة نشاطه الفني الساخر سريعا، فنفي من مصر وغضب عليه الخديو. حسبما يسرد بمتعة مخضرم «الشرق الأوسط» الكاتب الساخر خالد القشطيني في كتابه «السخرية السياسية العربية». وهو، أعني القشطيني، نموذج من الكتاب الساخرين الذين يعانون بسبب انتمائهم إلى الشرط الفني الساخر الذي يقوم على مصادمة المرن للمتصلب في ثقافتنا.

في كتابه الجميل هذا تعرض المؤلف إلى أن للعرب سهما وافرا في فن السخرية، ليس بشكل مسرحيات ساخرة ورسوم كاريكاتورية، كما كان الحال في أوروبا، ولكن في شكل مؤلفات وشعر وقصص وحكايات وشخصيات ساخرة يزخر بها تراثنا العربي. لنا أن نقرأ سخريات الجاحظ من البخلاء ومعلمي الصبيان والنحاة، بل لنا أن نقرأ قبل ذلك السخرية الأدبية الرفيعة (المبطنة) التي قدمها ابن المقفع في «كليلة ودمنة» الذي نقله من الفارسية إلى العربية بعدما أضاف على النص الأصلي وعربه بشكل جعله نصا معارضا واضحا على ألسنة حيوانات الغابة، وقل مثل ذلك عن نوادر التراث الكثيرة على شخصية التاجر والوزير والفقيه والسلطان.

بل والأغرب أننا نجد قصصا عن شخصيات سياسية دموية في تاريخنا كانت تقدر النكتة والبلاغة بشكل عام فتعفو عن صاحب الموهبة حتى ولو ارتكب محرما سياسيا.

ومن أظرف ما ترويه كتب التراث هذه أن الأمير الأموي المرعب الحجاج بن يوسف خرج والقنص، فضلّ الطريق فقابله أعرابي يرعى الغنم، فسأله الحجاج: ما رأيك يا أعرابي في الحجاج؟ فقال: لا حياه الله ولا بياه، هو ظالم غاشم.

فقال الحجاج: وما رأيك في الخليفة عبد الملك بن مروان؟ فقال: لعنة الله عليه، أليس هو الذي سلط علينا الحجاج؟

ثم تداركت الخيل الحجاج والتفت حوله، فذعر الأعرابي، وقال الحجاج: هل تعلم من أنا. قال الأعرابي: لا. قال الحجاج: أنا الحجاج بن يوسف. قال الأعرابي: وأنت هل تعلم من أنا!؟ قال الحجاج: لا. فقال الأعرابي: أنا مجنون بني عجل، ولي في النهار صرعتان وهذه أولاهما.. فضحك الحجاج وانصرف.

ولو رويت بعض هذه الطرف والظرائف الآن، لانبرى بعض مهاجمي المسلسلات المعاصرة هجوما وتجريحا.. ربما.

ماذا جرى إذن؟ العرب والمسلمون لم يكونوا بهذا الضيق وهذا التزمت النفسي.

السخرية، ولا أقول التجريح والقذف، هي دليل على عافية المجتمع وصحته، فالمجتمع الذي يسخر من نفسه هو مجتمع واثق وناضج ولديه قدرة على تبصر عيوبه، أما إذا كان المجتمع محتقنا فإن أدنى كلمة ولوحة تثير ثائرته، وكلنا يتذكر كيف تسبب برنامج كوميدي ساخر في لبنان في إحداث أزمة سياسية في لبنان قبل سنوات قريبة بعدما قلد الممثلون فيه شخصية حسن نصر الله زعيم حزب الله، أسوة بغيره من ساسة لبنان، كل ذلك بسبب أن هناك احتقانا في البلد.

قديما قال شاعر حكيم من شعراء الجزيرة العربية باللهجة العامية:

مايستشك ياحسين كود الرديين

وِلّا تَرى الّطيب وسيعٍ بطانه

أي: لا يشك، يا حسين، إلا من كان رديء الظن والتفكير، أما الإنسان المستقيم والصحيح الأخلاق والتفكير فإنه واسع البال طيب الظن.

فأين هذه الروح «الرياضية» مما نرى الآن من حروب كلامية وقذائف التهم والتوتر العام.

أين كنا وأين صرنا؟

[email protected]