انتقائية ليست بريئة!

TT

البرامج التلفزيونية في رمضان، وخصوصا ذات الطابع الديني، مليئة بالإشارات إلى الشخصيات الإسلامية البارزة والصحابة الإجلاء والعلماء الأفاضل والقادة الكبار والمجتهدين النبلاء، وهي تبذل قصارى الجهد في تبيان أهمية هذه الشخصيات في التاريخ الإسلامي، وتشيد بمواقفهم وإخلاصهم وعلمهم ونبلهم، وتصورهم وتجسدهم في أعمال درامية بديعة لتوضح تاريخهم وسيرتهم الخلابة، ولكن هذا النوع من الاحتفائيات الذي تحول مع الوقت إلى ما يشبه «الفلكلور» يثير الأسى، لأن العلاقة بين الحالة «الفقهية» المعاصرة وبين الممجدين من أعلام ورموز وعلماء المسلمين أشبهت من يزور المتاحف فيرى فيها الآثار والأطلال لحضارات قديمة!

فالحديث بالإسهاب والتمجيد والتهليل لشخصيات مثل الإمام أبو حنيفة النعمان والإمام الشافعي وابن رشد والنسائي وابن ماجه والشعراوي وعبد الحليم محمود وصلاح الدين الأيوبي وعمر بن عبد العزيز (وهذه مجرد نماذج من الشخصيات الكبرى التي جسدت في أعمال تلفزيونية مهمة) هو بمثابة التحكي أو حكاوي ما قبل النوم، لأن المدارس الفكرية لهؤلاء الرجال مغيبة تماما عن المائدة الفقهية في العالم الإسلامي وتم وضعها على «الرف الفكري» لصالح مشايخ بعينهم تم تكرار أقوالهم، وحشو عقول الناس بها على مر العقود لتتكون الصورة النمطية وترسخ في الأذهان أن «هؤلاء» ولا غيرهم هم وحدهم الذين لديهم الحق والوكالة الحصرية للتحدث باسم الدين ومشاريع العصور الأولى.

لقد تم تحويل الكثير من أعلام وعلماء المسلمين المهمين إلى «ضيوف شرف» يظهرون عرضا في مقالات وخطب جمعة وبعض الكتب، ولكن تقلص حضورهم وغاب في مجال السيرة والتاريخ والرأي والإفتاء والاستشهاد بهم كواقع حقيقي وعملي لفكرة الوسطية والتسامح والتعددية والتنوع، ولكن كل ذلك ومع مرور الوقت تم تهميشه و«تجريده» من الجوانب الفكرية وإفراغه تماما من النواحي الشرعية وإبقاء الصورة «الفلكلورية» المناسبة للحكواتية والقصاصين. التاريخ الإسلامي مليء بالأمثلة المميزة التي كرست في حياتها «تنوع السلوك والآراء» وطبقته، ولم يحتج أو يعترض عليها أحد، كان التعايش سيدا والتفاهم أساسا والاحترام قاعدة وإحسان الظن هو الهيكل الذي تقوم عليه كل تلك المسائل بمختلف أشكالها. نفس الأسماء ونفس الأشخاص ونفس الآراء هي التي تحتكر اليوم ساحة الإفتاء والآراء والمرجعية وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون نتاج ذلك هو التشدد والتطرف.

أمة هجرت علماءها وأعلامها وتبنت أسلوبا انتقائيا في المفاضلة بينهم فمنحت مشيخة الدين للبعض وحيدت وعزلت الآخرين، مما جعل للبعض «قيمة أكبر» تلقائيا في أذهان الناس بصورة مباشرة. من يعيد هيبة الأعلام والرموز ويجعل لهم القيمة التي اكتسبوها حتى تعاد لأبي حامد الغزالي جدارته ولعلي الطنطاوي مكانته ولمحمد الغزالي هيبته وللإمام مالك وضعيته ولابن حزم قيمته وغيرهم من العظماء الأجلاء. هذا النوع من التغييب المقصود هو الذي جعل داعية إسلاميا معاصرا عرف بأعداد كتبه الكثيرة يتطاول على الإمام أبي حامد الغزالي وكتابه الخالد «إحياء علوم الدين» ويقول فيه «إن الغزالي أراد إحياء الدين بكتابه فأماته» وطبعا مر كلامه مرور الكرام لأن هذا النوع من الحديث يأتي ضمن السياق المطلوب والمقبول في الانتقاص من شأن بعض العلماء والرموز لصالح آخرين.

التطرف والتشدد والتنطع لا تولد من فراغ، هي بحاجة لمناخ وبيئة مسمومة تدعم وتسقي وترعى بشكل مركز حتى تتولد وتزهر النبتة القاتلة. العلماء والأعلام المسلمون قدموا جهودا عظيمة، وتقديم البعض بصورة انتقائية على الآخرين هو نوع من الانتهازية الخطيرة التي جلبت العار والدمار ولا تزال على المسلمين.

[email protected]