المفاوضات العرجاء

TT

يتوجه الفلسطينيون إلى واشنطن لإطلاق مفاوضات مباشرة يفترض أن تناقش قضايا «الحل النهائي» وتقود إلى الدولة الفلسطينية، لكنهم يذهبون مشتتين ومتناحرين في مواجهة مفاوض إسرائيلي عنيد ورئيس وزراء لا يصدق غالبية الإسرائيليين أنه جاد في السعي إلى سلام حقيقي، بل يصفه كثيرون بالمراوغ الذي يريد الاحتيال على الفلسطينيين والأميركيين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن للفلسطينيين أن يحققوا سلاما حقيقيا يفي لهم بتطلعاتهم ويوفر لهم الأمن والاستقرار، وهم منقسمون ما بين ضفة تحت إدارة السلطة الفلسطينية، وغزة الواقعة تحت سلطة حماس؟

نتنياهو يعرف ذلك جيدا ويلعب عليه، فهو يدرك أن استئناف المفاوضات سيثير المزيد من الخلافات بين الفلسطينيين ويعقد مسألة المصالحة. كما أنه يعول على المناورات لكي تتعثر المفاوضات فيلقي باللوم على الفلسطينيين ويخرج هو من دائرة الضغط الأميركي. لذلك نسمعه يدلي بتصريحات متناقضة، فهو عندما يريد أن يخاطب الأميركيين وأطراف اللجنة الرباعية الدولية، يخرج ليقول إنه جاد تماما في التفاوض وإذا وجد أمامه طرفا فلسطينيا جادا (وكأن الفلسطينيين غير جادين) فإنه سيفاجئه بمدى التجاوب الإسرائيلي. كما يقول لمنتقديه المشككين في سعيه لسلام حقيقي «جرّبوني»، ولكنه سرعان ما ينسى نفسه ويعود ليتقمص شخصيته الحقيقية فيبدأ ألاعيبه ويطرح شروطا مشددة على الفلسطينيين. فهو ظل يتمسك بأنه لا يريد مفاوضات بشروط مسبقة، وأقنع الأميركيين بذلك إلى حد أن بيان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تحدث عن مفاوضات بلا شروط مسبقة، مما أثار غضب عباس والمفاوضين الفلسطينيين الذين كانوا قد وضعوا عدم استئناف البناء الاستيطاني شرطا لاستئناف المفاوضات. لكنه فجأة عاد قبل ثلاثة أيام ليضع شروطا أمام الفلسطينيين حددها في: ترتيبات أمنية «حقيقية»، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح.

هذا الموقف أثار قلق الفلسطينيين فردوا كما هو متوقع برفض الشروط المسبقة، ليقعوا في مطب نتنياهو الذي سيرد بالقول إنه لا يريد أيضا أن يفرض الفلسطينيون أو الأميركيون شرطا مسبقا يتمثل في استمرار وقف التوسع الاستيطاني. كما أنه أثار قلق واستياء الجامعة العربية ودفع أمينها العام عمرو موسى للقول إن موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي يعتبر بداية غير موفقة، ومؤشرا سلبيا لما سيجري في المفاوضات المقبلة.

نتنياهو يعرف أن قاعدته اليمينية لن تتنازل في موضوع الاستيطان، وهو في كل الأحوال لديه مواقف متطرفة معروفة عندما زار المستوطنات وأعطى وعودا ومواقف كثيرة تعكس قناعاته في رفض «اللهث للعودة إلى حدود 1967». لكن قدرته الفائقة على التلاعب والمناورة تجعله يدرك أنه لا يستطيع طرح مسألة استئناف الاستيطان الآن، وإلا عرض نفسه لمواجهة مع إدارة أوباما ومع «الرباعية الدولية»، ووحد مواقف الفلسطينيين المؤيدين والرافضين لاستئناف المفاوضات. لذا لجأ إلى المناورة للتخلص من هذا الشرط، وأوقع الفلسطينيين في مطب إعلان رفضهم الشروط المسبقة ردا على تصريحاته المستفزة الأخيرة. كما أنه تحمس لاستئناف المفاوضات المباشرة في الثاني من سبتمبر (أيلول)، أي قبل أربعة وعشرين يوما من انقضاء فترة تجميد الاستيطان، وهي فترة سيعمل خلالها على طرح الكثير من المطالب والعقبات خلال المفاوضات، بحيث يدفع الطرف الفلسطيني للانسحاب، وبالتالي يحمله المسؤولية. فالواقع أن نتنياهو يراهن على كسب الوقت وليس على تقديم «تنازلات حقيقية مؤلمة» من أجل السلام. فهو يرى انتخابات الكونغرس فرصة للضغط على إدارة أوباما بحيث تخف الضغوط على إسرائيل.

اللافت أن الرأي العام الإسرائيلي الذي يعرف نتنياهو جيدا، استقبل نبأ استئناف المفاوضات المباشرة بلا مبالاة، كما أن عددا من المعلقين الإسرائيليين كتبوا مشككين في جدية الرجل، وحول قدرته على اللعب على الحبال والمناورة لإفشال المفاوضات، إلى حد أن كبير المحللين السياسيين في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية ناحوم بارنياع اعتبر المفاوضات الآن «مضيعة للوقت». فنتنياهو سيتمسك بيهودية إسرائيل، وبالقدس «عاصمة أبدية موحدة» وبرفض عودة اللاجئين الفلسطينيين وبدولة فلسطينية منزوعة السلاح وبحدود مؤقتة إلى حين استكمال معالجة كل القضايا العالقة، مدركا أن عباس والمفاوضين الفلسطينيين لن يستطيعوا قبول كل هذه المطالب.

من هنا يبدو تصور السلام صعبا مع نتنياهو، والأمل هو أن لا يعتبر الفلسطينيون فشل المفاوضات، وهو الأمر المرجح، فرصة لتصفية الحسابات السياسية فيما بينهم، بل أن يروا فيها تذكيرا بأهمية تفعيل موضوع المصالحة لأنها في الواقع هي الخطوة الأولى للدخول في أي مفاوضات يمكن أن تحقق للفلسطينيين شيئا إيجابيا. فضعف الفلسطينيين تفريط في حقوقهم، وإضاعة للفرص، ستكون حماس أيضا مسؤولة عنه. فهي لا تحارب لأنها تدرك أن موازين القوى وحسابات الأوضاع السياسية الراهنة تعني أن الحرب صعبة وعلى الأرجح خاسرة، وتكتفي برفض المفاوضات ولا تقوم بما يلزم لإكمال المصالحة، بينما الأوضاع في غزة المنكوبة تسير من سيئ إلى أسوأ. فتعثر المفاوضات يجب أن يكون حافزا إضافيا، إن كانت هناك حاجة لحوافز أصلا، لاستكمال المصالحة المتعثرة، رأفة بالشعب الفلسطيني الواقع بين ذل الاحتلال، وقهر خلاف الإخوة.