نثر المدن وشعر القرى

TT

في «سرد المدن والسينما» يحاول سعد البازعي أن يقول لنا إن النتاج الروائي والشعري في الأدب السعودي خلال نصف قرن، يعكس إلى حد بعيد التطور الذي طرأ على تحول البيئة وهجرة القرى إلى المدن، وما يرافق ذلك من شعور بالضياع وبـ«الانتقال» النفسي من عالم إلى عالم.

يقول البازعي إنه بين 1930 ونهاية ثمانينات القرن الماضي، صدر تقريبا نحو 80 رواية، فيما صدر بين 2005 و2007 نحو 60 رواية. الثمانون الأولى كان مؤلفوها من الرجال، أما الستون الأخيرة فنصف مؤلفيها من النساء.

الواقع أن المرحلة الانتقالية، التي لا تزال مستمرة في السعودية، عرفتها مصر من قبل وعرفها لبنان. وكان أهل الأرياف كلما انتقلوا إلى المدن شعروا بغربة المنافي. وكانوا يحملون معهم بعفوية عاداتهم ومفاهيمهم والطباع الحالمة، فإذا بهم في مدن لا يعرف أهلها بعضهم البعض، ولا يملكون الوقت لأن يتقبل كل واحد منهم غربة الآخر.

لا أدري لماذا تجاوز البازعي أحد أبرز الأمثلة على ذلك وأكثرها طراوة وعفوية: «الحزام» لأحمد أبو دهمان. لقد استقبلت فرنسا يومها «الحزام» (الصادرة أولا بالفرنسية) بإعجاب وعطف نادرين. والسبب أن أبو دهمان أعاد الفرنسيين المختنقين بغبار المدن إلى نسائم الريف ولطائف الحياة العائلية وجمال الروابط الإنسانية.

لكن البازعي لا يريد أن يحصر دراسته في هذا المقام وحده. لذلك يتخذ نماذج أخرى لنواحي المجتمع المتبدل. ومنها حياة المدن بحد ذاتها من دون أن تكون موضع مقارنة أو تأثر بالريف. ويتوقف هنا عند مجموعة من الكاتبات، وفي صورة خاصة بدرية البشر. وتبدو بدرية لي، في كل ما تكتب، صاحبة أفق أكثر تنوعا واتساعا. فهي لم تقحم نفسها في ذلك النوع من الروايات أو القصص الذي اتجهت إليه معظم الكاتبات. ففي كثير من هذه الأعمال، تفتقد الرواية إلى كل المكونات والعناصر، إلى العنصر «النسوي». أي الشكوى من الرجل أو الشكوى إليه، طلب عالم الرجال والتمرد عليه، والانطلاق من إدانة مسبقة، أو متراكمة.

ودخل بعض هذا النوع من السرد المتذرع بصيغة الرواية، في نواح مملة ومقلدة ولم يعد فيها أي جديد. وهناك قسم آخر لا يمكن تصنيفه في أي فن من فنون الأدب إلا الثرثرة الممجوجة التي تريد صاحبتها مكانا فيه، أو بالأحرى عبورا سريعا، لا إقامة. وتنتهي عادة محنة هذه السيدات (أو الآنسات) مع الأدب ومحنته معهن، بعد كتاب واحد، يستخلص الدرس بنفسه. في المقابل يستمر العطاء الجدي ويزداد مهارة. مرة أخرى بدرية البشر نموذجا. فالذي يكتب في بدرية البشر هو الإنسان لا المرأة، الإنسان لا الموضوع، الحياة لا البطل. وفي أي حال، تشكل مطالعات سعد البازعي دليلا جميلا، ولو مقتضبا، إلى ملامح الأدب الحديث في السعودية، بقلم أحد أفراده.