اللوحة واللوح!

TT

عندما نقول في مصر إن فلانا «رجل لوح»، فهذا يعني أنه رجل تافه ومغفل لا يدري بما يدور من حوله، رويبضة، كما جاء في الحديث الشريف، واللوح لا ينطق ولا يتكلم هو مجرد خيال مآته أو جماد. أما اللوحة المقصودة في العنوان فهي لوحة زهرة الخشخاش للفنان العالمي فنسنت فان غوخ التي سرقت الأسبوع الفائت من متحف محمد محمود خليل في القاهرة، وقامت الدنيا ولم تقعد، وطالب بعض النشطاء بعزل وزير الثقافة لفشله في حماية اللوحة من اللوح، ولما تسبب فيه من كوارث في شأن الثقافة المصرية، ولكن مثل هذه التنديدات في مصر المحروسة لا تقيل وزيرا ولا تعزل غفيرا!

وتقول الأخبار الواردة من المحروسة: في هذا الإطار (إطار سرقة اللوحة) قام وزير الثقافة المصري فاروق حسني بزيارة إلى مكتب المستشار عبد المجيد محمود لاستكمال التحقيقات في اختفاء اللوحة من المتحف المذكور. ومن ناحية أخرى، (كما تقول الأخبار)، قرر قاضي المعارضات بمحكمة جنح الدقي تجديد حبس كل من محمد محسن شعلان وكيل أول وزارة الثقافة رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وثلاثة آخرين من أفراد الأمن الداخلي بالمتحف وأمين العهدة، واحدا وخمسين يوما على ذمة التحقيقات في قضية سرقة لوحة زهرة الخشخاش. والتحقيقات سوف تكشف عن مفاجآت!

المهم في قضية لوحة الخشخاش وغيرها من القضايا التي تثار بين كل حين وحين في مصر وتسيطر على الفضائيات والصفحات الأولى للجرائد كلها، أنها تثار غالبا عندما يكون النظام السياسي المصري بصدد التحضير لعمل ما، أو يحاول التهرب من مواجهة الجمهور في قضية ما. ورغم أن لوحة الخشخاش مهمة جدا فهي ضمن التراث الثقافي الإنساني، فإنني أشك في أنها قضية تهم أغلب المصريين الذين لم يسمعوا ولم يعرفوا قيمة اللوحات الفنية التي ضلت طريقها إلى مصر مثلا في العهد الملكي ثم أممتها الثورة من دون كبير اهتمام. اللوحات الفنية هي ترف بالنسبة إلى ساكني بولاق الذين يعانون من انقطاع الكهرباء ويعيشون في ظلام دامس طوال الشهر الكريم، وهي بلا شك في آخر قائمة اهتماماتهم. القصة هي خلق معركة جانبية تحدث قبل انتخابات مجلس الشعب ووسط حملات دعائية لمرشحي الرئاسة وفي جو من تكهنات كثيرة حول مستقبل الحكم في مصر، فهل ستمنح لوحة فنسنت فان غوخ النظام في مصر الوقت الكافي لإلهاء الناس؟ لأنني واثق بأن عيون المصريين الفقراء سوف تبحلق في السقف عندما يسمعون أن قيمة لوحة تقدر بأربعة ملايين دولار كما يقال.. أن تساوي رسمة لزهرية ملايين الدولارات فهذا أمر لا يفهمه الجياع والمتعبون. وربما كان الأمر مغريا ليدفع ببعض ضعاف النفوس إلى المزيد من سرقة الصور التي يظنون أنها كنوز ومصدر ثراء سريع.

في الصعيد، عندما سمع الناس بقصة تهريب الآثار المستمرة في مصر، وثمن المساخيط (التماثيل الفرعونية الصغيرة) التي يصل سعر واحدها إلى آلاف الدولارات، بدأت عمليات الحفر الليلي تحت البيوت في الأقصر وسوهاج. وهنا أذكر حادثة وقعت حيث كانت جماعة تحفر في الليل تحت أحد البيوت في قرية القرنة غرب الأقصر، وقبل بزوغ الفجر ضرب أحدهم بفأسه فاصطدمت الفأس بمعدن وأحدثت صوتا، وصرخ الرجال: «الذهب وصل!» ظنا منهم أنهم قد وصلوا إلى الكنز المدفون تحت البيت، وكانت المفاجأة عندما سمعوا صراخا مماثلا يأتي من البيت المجاور، فلقد كانت فؤوس الجيران الذين يحفرون تحت منزلهم أيضا بحثا عن الكنوز قد التقت فؤوسهم، وكان هذا سبب الرنين! في مصر الآن ظاهرة مخيفة لتهريب الآثار وسرقة اللوحات التاريخية، والذين يديرون هذه الظاهرة ليسوا الفقراء الذين لا يعرفون قيمتها، ولكن الطبقة الراقية أو أعضاء الطبقة الوسطى الجديدة التي أشرت إليها في مقال سابق بـ«الطبقة الوسخة».

نسمع ونقرأ دائما في الصحف المصرية، أن الوزير أو نائب الوزير يريد استرداد رأس نفرتيتي من ألمانيا، أو أنه ينوي رفع دعوى قضائية على المتحف البريطاني أو متحف نيويورك لاسترداد قطعة أثرية واحدة قديمة. ورسالتي هنا هي أنه لم يعد هناك أمل في استرداد ما تهرب من مصر، ولكن ما يمكن فعله هو وقف التهريب والنهب المستمر لتراث مصر. ولكن الطامة الكبرى أن يكون قد تسيد مصر شعور عام بأن البيت ينهار على ساكنيه، وكما يقول المثل المصري: «إن وقع بيت أبوك، خد لك منه قالب». في مصر ليس لدينا الكثير من اللوحات النادرة، ولكن على ما يبدو أن لدينا الكثير والكثير من «الألواح».