في الفتوى والحسبة.. الجرأة على الدين

TT

تطفو على السطح، في الساحة الإسلامية، قضية الفتوى والإفتاء مرة أخرى (مغزى الفتوى ودورها الفعلي، لا المتوهم، في الحياة العملية للمسلم اليوم.. من يحق له أن يتصدى للفتوى؟ هل من الممكن أن يرجع الأمر فيها إلى الحرية التامة دون نظر الحكومات أو الجهات الحكومية المسؤولة عن الحقل الديني وتدبير شؤونه في البلدان الإسلامية؟). والحق أنه لا غرابة في الرجوع، بين الفينة والأخرى، إلى قضية الفتيا وما يتصل بها.

قضية الفتوى والمفتي تنقل المسلم اليوم دفعة واحدة إلى جوهر الإشكال الذي يقوم في الوئام والتعايش الإيجابي بين الانتماء إلى العصر، بصعوباته وتعقيداته وممكناته، وبين الالتزام التام بالدين الإسلامي في جوهره. قضية خالدة شغلت الكثير من مفكري الإسلام في المرحلة التي نصطلح على نعتها بعصر النهضة (منتصف القرن التاسع عشر على وجه التقريب إلى ستينات القرن المنصرم). واليوم يظهر جليا أن القضية تتجه لتشغل مركز الصدارة، ولتحتل بؤرة الوعي الاجتماعي. الشأن كذلك في وجود سمة «العودة إلى التدين» (كما يقول أحد علماء الاجتماع)، أو العودة إلى الدين ممارسة وتصورا كما ترى كوكبة من المفكرين في الغرب الأوروبي والأميركي، العودة إلى الدين، من جانب أول، وتزاحم الدعوات لتسخير الدين (والدين الإسلامي خصوصا) لخدمة أغراض دنيوية، في الوقت الذي ترتفع الحناجر بالحق الذي يراد به باطل، وهذا من جانب ثان. وإصدار الفتوى، دون حرج ولا تردد أحايين كثيرة، بالتكفير تارة وبالقول في الدين، من جهتي العبادة والمعاملة معا، وتارة أخرى يكسب حديث الدين والعصر وحديث الدين والمستقبل، يكسبه خطورة عظمى.

يحمل على المخاطرة بإصدار الفتاوى (من قبل جهات كثيرة لا تتوافر على الإعداد العلمي اللازم ولا تمتلك، من ثم، الأهلية الشرعية لذلك). أسباب كثيرة إذن الناظم بينها هو الجراءة على الدين، الدين الإسلامي في بلد الإسلام. ربما كانت الحجة التي يقذف بها الكثير من المهووسين بالفتيا بأي سبيل وطريق، ممن هم من غير مالكي العدة الشرعية الضرورية لذلك (دعك من المكملات المعرفية الأخرى من الشريعة ومن المعارف الأخرى)، ربما كانت الحجة هي قولهم: لا رهبانية في الإسلام. لا شك في ذلك، فليس من شرط التعبد في الإسلام وجود وسيط - أيا كانت طبيعته - بين المؤمن وربه، بل إن وجود الوسيط يفسد الاعتقاد ويضرب مبدأ التوحيد في جوهره. غير أنه مما لا شك فيه كذلك أن المقرر عند المسلمين هو المبدأ القائل «لا يعبد الله بجهل». والفتوى إحدى سبل ممارسة العبادة وإحدى وسائلها الضرورية، لا بل إنها تغدو الوسيلة اللازمة في الأحيان التي ينعدم فيها الحكم الشرعي الواضح ويتعذر الوقوع في الحل المناسب بالرجوع إلى ما كان موضع إجماع من العلماء في العهود السابقة. وفي كلمة واحدة فإن «النوازل» (أي ما يستجد من الوقائع في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل الثقافية عامة، متى أخدنا الثقافة في معناها الواسع) تستدعي «الفتاوى».

الفتوى تقترن بالتطور من جانب أول، وتمثل كلما طرحت، بحكم هذا التطور، قضية المواءمة أو عدمها بين الدين والعصر، من جانب ثان. من ثم تكون خطورة الفتوى، ومن ثم تطرح معها قضية أخرى (سياسية قبل أن تكون دينية في الواقع)، وهي: هل يحق لمن كان مسؤولا، في المقام الأعلى، عن جماعة المسلمين في الدولة أن يظل ملتزما بالصمت والحياد؟

لا شك أن الجواب عن السؤال يدخل في باب البديهيات «التي يهجم بها العقل»، كما يقول أبو المعالي الجويني، ذلك أنه لا استقامة لأمر الأمة، بل لوجود الجماعة (المسلمون في نهاية الأمر) إلا بوجود مسؤول أعلى يقدر خطورة واقع يصح نعته إجمالا بـ«فوضى الفتوى» وانعدام ضوابطها. والضوابط لا تعني قبول الاختلاف في الرأي، بل الحق أنها تستدعيه، شريطة أن يكون الاختلاف في الرأي اختلافا بين من يملكون الإعداد العلمي والكفاءة البشرية، والأهلية الشرعية لذلك مما هو مطلوب ومعروف (ومما قد نرجع إليه لاحقا).

لهذه المسؤولية العليا المشار إليها، وهي في نهاية الأمر، وبعبارة واضحة، المسؤولية المناط أمرها بمن ارتضته الأمة رئيسا لها، وجه ديني، أو قل إنه وجه ديني له تجليات اجتماعية سياسية إدارية معا. هذا الوجه هو الاحتساب وممارسته هي «الحسبة»، والحسبة كما هي في التعريف المتداول «أمر بالمعروف إذا بدا تركه ونهي عن المنكر متى ظهر فعله». ثم إن هذا التعريف، في الوجود الاجتماعي للأمة وفي الوجود الاجتماعي للجماعة (وعمر بن الخطاب يقول: «لا إسلام بغير جماعة») يستدعي نظرا متطورا في معنى كل من «المنكر» و«المعروف» متى غم الأمر وتجاوز ما كان واضحا قطعي الدلالة، مما لا يكون فيه قول أو اجتهاد. غير أن هذه القضية تنقلنا إلى مستوى آخر من النظر يتصل بأهل الحسبة ومسؤولياتهم وحدود تلك المسؤولية، بل ودلالتها في الوجود المعاصر، وهذا المستوى من القول من شأنه، مع أهميته القصوى بطبيعة الأمر، أن يخرج بنا أو على الأقل أن يبعدنا عن موضوع حديثنا اليوم.

الحق أن القضية الأساس في حديثنا هذا، قضية الإسلام والعصر، قضية عصر النهضة، وهي تعود لنا (أو بالأحرى نحن نعود لها ضرورة) اليوم في صورة جديدة تستدعي التذكير بحقائق أولية، كما يقول الفلاسفة، أو لنقل تستوجب، في اللغة السيارة، التسليم بأوليات ليست مما يمكن الاختلاف فيه. ولا شك أن آكد تلك الأولويات هي ما تمت الإشارة إليه أعلاه من استحالة العبادة مع الجهل أو من حيث اقتضاء العبادة للعلم.

ولعلي أكتفي في هذا المقام بالتذكير بأحد الأمور التي تتفرع عن قاعدة «لا يعبد الله بجهل»، بل وبما كان الأمر أكثر وضوحا وبساطة، ذلك الأمر هو أن المعارف الدينية تلزم من جانب أول كل مكلف من أهل الملة فلا يمكن لمسلم أن يجهلها، كما أن منها ما لا يلزم إلا من حمله علمه واستعداده إلى مرتبة أخرى، من جانب ثان. فأما المجموعة الأولى فهي التي يقول بها علماء الشرع إنها «العامة»، وأما المجموعة الثانية، وهي بطبيعة الأمر الفئة القليلة العدد التي تلزمها شروط ثقيلة (ما قلناه أعلاه إنه: الإعداد العلمي، الكفاءة البشرية، الأهلية الشرعية)، فهي فئة «الخاصة». والتمييز في الوجود الإسلامي بين «العامة» و«الخاصة» على النحو الذي يوضحه على الوجه الكافي محمد بن إدريس الشافعي في «الرسالة» يظل، في نهاية الأمر، فيصل التفرقة بين من يكون لهم مقاربة الفتوى وبين من يعد كلامهم جراءة غير محمودة، لا بل سلوكا محفوفا بالمخاطر التي تتهدد الإسلام لا شريعة فقط، بل عقيدة أولا وأساسا.

لا يكون الدين على حقيقته إلا متى كانت الفتوى وأمرها يرجعان إلى «الخاصة»، ولا يساء فهم الدين، مما تكون عنه الشرور والويلات، إلا متى أصبح المرء من «العامة» متصديا لها. مبدأ بسيط، ولكن نتائجه خطيرة على الوجود الاجتماعي والديني للجماعة سلبا أو إيجابا.