عقدان من الزمان

TT

عندما دخلت القوات الأميركية بغداد عام 2003 خرجت عناوين الصحف تصدح وتحيي الإنجاز الكبير بالعناوين الكبرى المدوية، فكانت هناك سطور مثل «مواكب النصر تزيل الديكتاتورية» و«القوات تدحر النظام الطاغية» و«سقوط الحكم الطاغي على يد الأبطال».. كل هذه العناوين متوقع أن تكون في بعض الصحف الأميركية والبريطانية وحتى الإيطالية والإسبانية، لأنها جميعا دول شاركت بجنودها ومالها وسياستها في الحرب على العراق.. لكن هذه العناوين كانت لصحف صادرة في الكويت، الصحف كانت تعكس جوا عاما موجودا في الكويت، يبدو داعما للموقف الأميركي من الحرب على العراق.

وكانت تلك الصحف «تتفهم» هذه المواقف والسياسات والحراك العسكري الغربي، وتعطي التبريرات والتوضيحات. وللأمانة الصحف والوسائل الإعلامية الأخرى كانت تعكس حالة عامة موجودة بالكويت ولدى الكويتيين عامة وقتها جراء الإحساس العالي بالغدر والظلم لما تسبب فيه الغزو العراقي لبلادهم من أذى ودمار، وقد استشهد بذلك الإعلامي الأكاديمي الأميركي لورانس بنتاك، الذي كان يدير البرنامج الإعلامي الأكاديمي في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وكان يراقب تبعات المشهد الإعلامي بعد الحرب الأميركية على العراق.

الكويت بعد تحريرها من الغزو العراقي لها تبنت مواقف «خاصة» بها، واختارت أمنها على حساب شعارات أخرى، وبالتالي كان التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية قرار بقاء وقرار مصير كما صوره ساستها ونوابها وإعلاميوها.. لكن بمرور الوقت ومرور عقدين من الزمن حدث تحول شعبي وبرلماني وإعلامي تجاه العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، فهناك أطياف متزايدة من الكويتيين تستشعر القلق تجاه السياسات الحمقاء التي تبنتها جماعة المحافظين الجدد إبان حكم الرئيس جورج بوش الابن، الذي ولّد عراقا ممزقا تنخره السياسات والتجاذبات والتناحرات المذهبية والطائفية والعرقية بشكل بات معه البلد مقسما عمليا، والكويت بلد صغير ذو تركيبة سكانية وخلطة سياسية خاصة ودقيقة جدا، وبالتالي حينما انطلقت بكتيريا وفيروسات العنصرية والتطرف والتشدد والتمزيق والفتنة من العراق مدعومة برياح التقاتل والعنف والدماء أتت على أرضية مهيأة وخصبة، وبدأت «المناوشات» داخل البرلمان وفي الصحافة وفي الديوانيات وعلى المنابر وفي الجامعات والمدارس والأندية الرياضية والأعمال التلفزيونية والمطبوعات، واليوم من الممكن القول إن هناك تيارات في الكويت تكون لديها «ردة» قوية تجاه العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتعتبر أن فشل سياساتها في العراق (وهو فشل سيطول نظرا لبقاء 50 ألف جندي بالبلاد.. وبشكل مفتوح وكذلك وجود أكبر سفارة للولايات المتحدة الأميركية في العالم في بغداد كان البقاء في العراق قرارا استراتيجيا) سيجر ويلات على الكويت والمنطقة، وفتح الشهية للجار الإيراني بعد أن استقر نفوذه في العراق لأن يتوسع على الغير ويمارس الأنشطة نفسها فيها.

من المهم أن يتدارس الساسة الأميركيون حال «الردة» التي تكونت بالكويت تجاه السياسة الخارجية لأميركا، فالكويت كانت ولا تزال بحسب الساسة الأميركيين أقرب الحلفاء العرب لها، لذلك هي مسألة بحاجة للتمعن عن قرب وبمثابة جرس إنذار. الكويت كانت قد جربت التجاذبات السياسية المختلفة وذاقت في بعض الأحيان مر هذه التجارب، فالقومية العربية كان لها مد، وكذلك «البعث» و«الإخوان المسلمون» و«الخمينيون»، وأخيرا «الأمركة»، لكن الأصوات التي تخرج من الكويت اليوم ناقدة للسياسة الأميركية هي أصوات قلقة ومضطربة على وضع بلادها، لأن العراق وما يحدث فيه مشهد لا يسر، وعناصره موجودة في الخلطة الكويتية، فهناك التركيبة الطائفية والخليط العرقي.

الشيعة والسنة والعرب والهولة والبدون والقبائل مزيج سريع الاشتعال في بلد حساس. الكويت مرت بالكثير في السنوات العشرين الماضية.. عوامل نفسية وأخرى سياسية.. والكثير من الحراك الاجتماعي والاقتصادي والفكري. تجاذبات ومصادمات، ومحاولات للصلح مع الذات والآخرين، ولعل هذا الذي يحدث الآن من حراك ومراجعة وردة مع السياسة الأميركية هو صفحة أخرى لكنها مهمة في التاريخ السياسي للكويت، وهي نقطة بحاجة للتدبر من الساسة في الكويت وأميركا.