المفاوضات المباشرة وجدل الشكل والنتائج

TT

لا يكاد الفلسطينيون والإسرائيليون يعلنون عن بدء مفاوضات مباشرة، حتى يعودوا للتجادل فيما بينهم، كأنما لا يتفقون على شيء ولا يريدون اللقاء! نعلم عن اللقاء لبدء المفاوضات المباشرة من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، التي دعت الطرفين إلى واشنطن لبدء التفاوض المباشر في 2 سبتمبر (أيلول) المقبل، كما أعلن فيما بعد عن حضور الرئيس مبارك والملك الأردني عبد الله الثاني جلسة الافتتاح. أما جورج ميتشل، مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط منذ بدء عهده، والمفاوض المتمرس القليل الكلام؛ فإنه أدلى بتصريح طويل ومركب في قضية التفاوض، وردت فيه عبارة غريبة، ولكنها ذات دلالة. قال ميتشل، الذي قاد المفاوضات لمدة سنتين لحل المشكلة الأيرلندية بين الكاثوليك والبروتستانت قبل نيف وعشرين عاما، إنه فشل طوال سبعمائة يوم، لكنه شهد يوم نجاح واحدا، وكان ذلك كافيا!

ولندع المحيط والحواشي، ولننصرف إلى المضامين والإمكانيات. فقد خاض الإسرائيليون والفلسطينيون مفاوضات غير مباشرة كان الوسيط فيها جورج ميتشل، وانتهت في يوليو (تموز) عمليا، وإن كان موعد اختتامها الأصلي منتصف أغسطس (آب). وما عرفنا ماذا حدث بالتفصيل؟ لكن الطرفين - وخاصة الطرف الفلسطيني - قالا إنها فشلت. وما كانت المفاوضات مباشرة لأن نتنياهو يأبى الشروط المسبقة، بينما كان الفلسطينيون يصرون على شرطين أو ثلاثة: المرجعية والهدف، ووقف الاستيطان، وتحديد وقت لختم التفاوض. والمقصود بالمرجعية والهدف، القول إن المقصود من وراء التفاوض إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967. أما الاستيطان؛ فإن نتنياهو كان قد أوقفه لعشرة أشهر تنتهي في 26 سبتمبر 2010، ويريد الفلسطينيون أن يبقى موقوفا ما دام التفاوض مستمرا، وأن يشمل ذلك القدس أيضا. والمفهوم من الأخبار المتداولة أن الإسرائيليين ركزوا طوال الوقت على الأمن، وعلى يهودية الدولة، وبالتالي إلغاء مسألة اللاجئين، ورفضوا الدخول في أي شيء يتعلق بالقدس باعتبارها «العاصمة الأبدية لإسرائيل»! وبالتالي فقد كان «النجاح» المبدئي والمؤقت للفلسطينيين - إذا كان يمكن تسميته نجاحا – هو الإصرار على وقف التفاوض غير المباشر، كما حصل بالفعل. بيد أن الفرحة لم تتم، فمع بدء حديث الفلسطينيين عن عدم حدوث تقدم في المفاوضات (غير المباشرة)، سارع الأميركيون للقول بل إن تقدما حصل يسوغ الانتقال إلى التفاوض المباشر! وقد رفض الفلسطينيون والعرب الآخرون ذلك في البدء، مستندين إلى قرار مجلس وزراء الخارجية العرب، الذي كان قد قرر أنه في حال فشل التفاوض غير المباشر؛ فإن العرب سيتجهون في شهر أكتوبر (تشرين الأول) إلى مجلس الأمن لوضع المشكلة في حضنه، والإصرار على تنفيذ القرارات الدولية. وألح كل من كلينتون وميتشل في زياراتهما على الانتقال إلى التفاوض المباشر. والمبررات ثلاثة أمور: أن كل المسائل قتلت بحثا ودرسا، ولا بد من الجلوس على الطاولة لوضع جداول تنفيذية معا، بدلا من تبادل الأوراق التي لا نهاية لها من خلال ميتشل. وخلال المراجعة التفصيلية، أيضا، تتبين المسائل التي يمكن التقدم فيها، والأخرى التي تتطلب المزيد من المحاججة والمجادلة، لكي يجرى تركيز الجهد عليها أميركيا ودوليا. والأمر الثاني أن إدارة أوباما اقترحت من قبل موعدا لإقامة الدولة الفلسطينية هو عام 2011، وهي لا تريد الإخلال به، لأن البديل زيادة التطرف على الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، وكلما طالت المشكلة ازدادت تعقيداتها. فالإسراع إنما هو لصالح الطرفين، ولصالح الاهتمامات الوطنية والاستراتيجية للولايات المتحدة. والأمر الثالث أن هناك عناصر وجوانب متطرفة في الشرق الأوسط ورسمية وغير رسمية. وهي ترمي جميعا لنشر الاضطرابات والحروب لتخريب العملية السلمية، مهما كلف الأمر. وقطع التفاوض وتبادل الاتهامات يهدد بنشر الاضطراب، ويشجع الذين يريدون منع التسوية على محاولة ذلك بالصدامات الداخلية أو مع إسرائيل. وهذا فضلا عن أن المتطرفين الإسرائيليين يطمحون لشن حروب من أجل «الأمن» على حزب الله وإيران. كل ذلك ينبغي استيعابه بالتفاوض، وهذا ما قاله الرئيس الأميركي للمسؤولين العرب والإسرائيليين الذين زاروه، كما دفع بنتنياهو لزيارة القاهرة والأردن من أجل الطمأنة والتشجيع، ثم ما لبث أن كرر الهواجس و«الضمانات» في رسائله إلى الرئيسين مبارك وأبو مازن. وعلى الرغم من ذلك كله، ظل الفلسطينيون يقولون إن الضمانات غير كافية، مع أن مجلس وزراء الخارجية العرب تخلى عن رفضه المطلق، واجتمع بالجامعة العربية في القاهرة «آذنا» لأبو مازن بالاستمرار في التفاوض إن رأى ذلك ملائما (!). وصارت الضغوط على الفلسطينيين قاسية ولا تحتمل، ودخل فيها الروس والأوروبيون. ولا ندري من هو صاحب الفكرة، لكن الحاجة أم الاختراع؛ فقد قيل فجأة إن منظمة التحرير تنتظر بيانا من الرباعية يتضمن الشروط والضمانات (التي فشلت في إعطائها إدارة أوباما) التي تسمح ببدء التفاوض المباشر.

يريد الفلسطينيون، خلال عام، التفاوض (من سبتمبر 2010 إلى سبتمبر 2011) والتوصل للإعلان عن قيام دولة فلسطينية في حدود عام 1967، وينسحب من أراضيها الإسرائيليون، ويطلقون سراح الأسرى. وهناك مشكلات هائلة ومعقدة بين الطرفين، نتيجة فترة الاحتلال الطويلة مثل الكهرباء والماء والأمن والتداخل السكاني والتبعية الاقتصادية والنقدية. ثم إن هناك مشكلات «الحل النهائي» وهي: الحدود واللاجئون والمستوطنات والقدس. ويقول الأوروبيون إن المستوطنات تنحل قضيتها بتبادل الأراضي، أي أن تعطي إسرائيل أراضي في النقب بدلا من أراضي المستوطنات الخمس الكبرى. ولقضية اللاجئين حلول من مثل عودة عدد منهم إلى فلسطين القديمة، وعدد آخر أكبر إلى فلسطين الجديدة، والباقي يأخذ تعويضا ويذهب إلى المهاجر في كندا وأستراليا أو يبقى مكانه بجوازات سفر فلسطينية. أما الحدود، فالمقصود بها أن إسرائيل لا تزال مصرة على البقاء على الحدود مع مصر ومع الأردن. وهي لا تقبل حتى الآن الضمانات من البلدين بدواعي الأمن. ولمسألة القدس تعقيد خاص، لأن إسرائيل أعلنتها بالكامل عاصمة أبدية لها، وهجّرت حتى الآن ربع سكانها العرب، وملأت جوارها بالمستعمرات الهائلة. إنما بحسب القرارات الدولية، فإن القدس لا تزال محتلة، ولا يزال الفلسطينيون يأملون في الحصول على الأحياء العربية بالمدينة لتكون عاصمة لهم، ثم إن الإشراف على الأماكن المقدسة (وبينها المسيحي واليهودي) تعقيداته كثيرة ودولية، وليست ثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

هذا هو مجمل التصورات لدى اللجنة الرباعية، وهي تفترض ترابطا مستمرا بين إسرائيل وفلسطين، ليس في الأماكن المقدسة وحسب؛ بل في الكهرباء والمياه والتجارة والنقد والتداخل السكاني والعمالة.. إلخ. أما الإسرائيليون فما قالوا أشياء كثيرة. إنما أنعم علينا نتنياهو بعدة شروط: دولة منزوعة السلاح، وإسرائيل على الحدود مع مصر والأردن، ولا عودة للاجئين، ولا حديث عن القدس، باستثناء الأماكن المقدسة الإسلامية. وبين هذا وذاك يبقى أنّ الإسرائيليين يعتقدون أنهم «ربحوا» مبدئياً لأنهم فاوضوا بدون شروط. ويقول الفلسطينيون إنهم لن يتنازلوا مهما كلّف الأمر، وهذا هو المهم!