قيمة «العلاج الفكري» في الشفاء من «التأويل الفاسد» للدين

TT

1) رمضان موسم مديد ومتفتح لـ«التوبة»، ولذا يجتهد المسلمون فيه في الأخذ بأسباب التوبة: من استغفار وعزائم على مفارقة الإثم، والارتقاء بالذات إلى مراتب نفسية وسلوكية أطهر وأزكى.. والذهن السائد أو الغالب هو أن التوبة إنما تكون من الخمر والسرقة والزنى والغيبة والنميمة وسائر المعاصي الظاهرة.. ومما لا ريب فيه أن هذه آثام تجب التوبة منها. بيد أن التوبة أوسع من ذلك، إذ تتطلب - كذلك - المتاب من الأفكار والمفاهيم الخاطئة التي يترتب عليها فعل شرير، وسلوك منحرف.. وإذا كان باب الرجاء واسعا جدا، ومفتوحا دوما للمتاب من الآثام الظاهرة، فإنه واسع ومفتوح - كذلك - للتوبة مما هو غير ظاهر مثل «الفكر الفاسد».. وهذه بشرى واعدة لمن يحمل فكرا خاطئا: بشرى مفعمة بفرص «الاستقامة الفكرية».. والنشأة الثقافية الجديدة.. والحياة الجديدة.. والضياء الذي يشق الظلام شقا، فإذا الإنسان في ضحوة صافية تنشط البصر، وتجلو البصيرة، وتقوي الهمة وتغريها بالتفكير السديد النافع: للذات، وللآخرين.

هل المناخ الرمضاني الطيب: مدخل إلى هذا الموضوع؟ نعم، هو كذلك.. ولكن ثمة مدخل آخر وهو: المراجعات الفكرية التي طرحها بوضوح وعمق - في وسائل الإعلام السعودية:المرئية والمكتوبة - الشيخ الشجاع الدكتور عبد العزيز الحميدي أستاذ العقيدة في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.. وتتبدى شجاعة الشيخ في التصحيح الفكري الموثق والمؤصل - بأدلة حاسمة من الكتاب والسنة -، وهو تصحيح يبدو وكأنه دعوة صادقة من الشيخ يدعو فيها أولئك الذين زاغت مفاهيمهم، وندت عن المنهج الحق، يدعوهم إلى «التوبة الفكرية» في رمضان: شهر التوبة والغفران.. ولقد عرض الشيخ الحميدي لقضايا عديدة، نصطفي منها واحدة فقط - نظرا لضيق المساحة - وهي قضية «الولاء والبراء». فقد وكد على «أصل» الولاء والبراء من جهة (بغير ذهنية اعتذارية)، وانتصر - من جهة أخرى - للمفهوم الصحيح للولاء والبراء.. ولقد قدم فيضا من البراهين الشرعية على ذلك، مزيلا - بتبصر: التناقض المفتعل بين عقيدة الولاء والبراء وبين التعامل السوي مع غير المسلمين.

وهذا حق. حق: أن الولاء والبراء أصل إيماني في الإسلام، وحق: أن هذا الأصل ليس مانعا - البتة - من التعامل الكريم السوي الواسع مع غير المسلمين.

ولقد تهيأ السياق لبسط القول في الموضوع.

إن لكل أمة ولاءها وبراءها - على اختلاف مقاييس الولاء والبراء -.. مثلا نقرأ في الفقرة الثالثة من المادة الثالثة من الدستور الأميركي هذا النص: «جريمة الخيانة العظمى ضد الولايات المتحدة ستشتمل فقط على شن حرب ضدها، أو الموالاة لأعدائها وتقديم المساعدة لهم». لقد نص الدستور الأميركي على مسألة «الموالاة» لأعداء أميركا.. أي إن أميركا تتبرأ من الذين «يوالون» أعداءها.. وهذا مضمون من مضامين الولاء والبراء بلا شك.. ويقتضي التنويع في تيسير الفهم أن نقول: إن من مفاهيم الولاء والبراء - عند المسلمين - : طي الفؤاد على بغض الكفر بالله، والشرك به سبحانه وتعالى.. وهذا شيء طبيعي في موقف المؤمن الذي يحب الإيمان والتوحيد.. وبإدناء المعاني إلى الأفهام يسهل الاقتناع: فكل حامل قيمة معينة، مقتنع بها: يكره ما يضادها - بداهة.

فالمحب للحرية يبغض الدكتاتورية والاستبداد، والمحب للعدل يكره الظلم، والمحب للإلحاد يكره الإيمان، والمحب للمساواة يبغض العنصرية، والمحب للاستواء والاعتدال يبغض الغلو والتطرف ويتبرأ منهما.. وهكذا.

المسلمون - من ثم - ليسوا بدعا في الولاء والبراء، فهم بشر من البشر يطوون أفئدتهم على حب ما يحبون، وبغض ما يبغضون، وليس من حق أحد أن يصادر هذه المشاعر في صدور المسلمين، إلا أن يدعي أن هناك استثناء «كونيا» يستثني المسلمين - فحسب - من التمتع بهذه الحقوق القلبية والشعورية!

وعلينا أن نعترف - في الوقت نفسه - بأن من المسلمين من انحرفوا بمفهوم الولاء والبراء انحرافا شديدا نسخوا بموجبه نصوصا محكمة في القرآن: نسخوا به آية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».. فالآية نزلت لتزيل الأسلاك الشائكة بين الأمم.. ونسخوا بالمفهوم الخاطئ للولاء والبراء آية: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».. يقول ابن كثير - في تفسير هذه الآية - : «يأمر الله تعالى بمصانعة العدو الإنسي، والإحسان إليه ليرده عن العداوة إلى الموالاة والمصافاة».. إن المعاملة الراقية مع الأعداء أنفسهم بدلت - هاهنا - المواقف تبديلا، إذ انقلب العدو الذي تجب البراءة منه إلى ولي حميم يتعين التعامل معه بوداد!.. ثم نسخوا بالمفهوم الخاطئ للولاء والبراء آية (جعل الأبواب مفتوحة دوما تجاه الأعداء أنفسهم) وهي: «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم».. فهذه الآية دعوة صريحة إلى الإيناس والإيلاف وفتح باب الاحتمالات الحسنة مع المعادين، فكيف يوصد هذا الباب «الشرعي» بمقتضى مفهوم منحرف للولاء والبراء؟!.. ونسخوا بالمفهوم الخاطئ للولاء والبراء أو للموالاة والمعاداة آية: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».. يقول ابن جرير الطبري: «أولى الأقوال في ذلك بالصواب: عنى بذلك جميع أصناف الملل والأديان: أن تبروهم وتقسطوا إليهم.. ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ».

ولما كان الولاء والبراء لا يعني - قط - : التجافي الدائم عن غير المسلمين، أو مقاطعتهم، أو الإساءة إليهم، فقد نشأت في ظله (أي المفهوم الصحيح للولاء والبراء) تعاملات واسعة مع غير المسلمين في المجالات كافة تقريبا، كما نشأت في ظله منظومة هائلة من العهود والمواثيق التي تنظم العلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلمين.. وهو ما سماه مجيد خدوري «القانون الدولي الإسلامي» وهو يحقق ويقدم كتاب «السير» للشيباني.. وعمدة إبرام المواثيق - بين المسلمين وغيرهم - وقوام الوفاء بها، آيات قرآنية محكمة مثل قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود».. وقوله سبحانه: «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم».. وقوله جل ثناؤه: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا».

ومن أسطع البراهين على تعظيم أمر المواثيق والوفاء بها: أن القرآن قد نص عليها في سورة التوبة ذاتها، وهي السورة التي أعلنت البراءة من المشركين (وهذا يعني: أن مفهوم الولاء والبراء لا يسمح - قط - بخيانة المواثيق).

أ) نقرأ في سورة التوبة: «وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم».. ثم جاء بعد ذلك مباشرة نص الوفاء للمشركين بعهودهم: «إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين».

ب) نقرأ - في السياق نفسه - : «إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين».. ويلحظ أن الآيتين ختمتا بمحبة الله للمتقين: لكي يعلم المسلمون - بيقين - أن تقوى الله مطلوبة في الوفاء بالعهود حتى وإن كانت مع المشركين، وهم أبعد الناس عن الله، لشركهم بالله.. وهكذا يرتقي الوفاء بالعهد والميثاق من مرتبة النص القانوني المكتوب إلى مرتبة التوحيد والإيمان والتقوى ومحبة الله تقدس في علاه. تقوى في التعامل مع المشركين؟!!!

آمنت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا.