النجف بعد انسحاب أميركا

TT

غادر آخر لواء أميركي مقاتل أرض العراق في 18 أغسطس (آب) الحالي. وفي الوقت الذي أعلن الرئيس أوباما بقاء 50.000 جندي أميركي هناك حتى ديسمبر (كانون الأول) 2011 بهدف تولي تدريب الجيش العراقي، تركز الوحدات الأميركية في واقع الأمر اهتمامها بدرجة أكبر على حزم الأطنان من المعدات، وذلك من أجل «أن نتمكن من إطفاء الأنوار وإغلاق الباب خلفنا»، حسب تعبير كولونيل أميركي. وتقلدت وزارة الخارجية الآن دور الريادة في صياغة مستقبل العلاقات الأميركية - العراقية. من جهته، أعلن بي. جيه. كراولي في 19 أغسطس الحالي: «إننا على استعداد كامل للاضطلاع بمسؤولياتنا». فيما وراء تشغيل أكبر سفارة أميركية بالعالم، التي تستضيفها بغداد، سيشرع الدبلوماسيون الأميركيون قريبا في افتتاح قنصليات داخل إقليم كردستان العراق والبصرة. إلا أن خطة ما بعد الاحتلال تفتقر إلى عنصر مهم وهو تمثيل أميركي دائم في النجف، التي ربما تمثل المدينة الأهم بالعراق الجديد.

يذكر أن النجف تضم ضريحين مقدسين للشيعة وتعد مركزا للفقه الشيعي، ليس في العراق وحسب، وإنما في العالم الإسلامي كله. ورغم أن الشيعة يشكلون 10% فقط من إجمالي عدد مسلمي العالم، فإن هذه النسبة تكافئ 100 مليون نسمة. وما بين البحر المتوسط وإيران، ترتفع نسبة الشيعة بين إجمالي المسلمين إلى 50%. وفي العراق، تقترب نسبة الشيعة من 70% جراء فرار الكثير من السنة من البلاد في أعقاب سقوط صدام حسين.

اللافت أن الشيعة لا يتبعون جميعا النهج ذاته، ففي النجف، مثلا، تهيمن تيارات مسالمة من المذهب الشيعي تنادي إلى فصل أكبر بين الدين والدولة، بينما في مدينة قم الإيرانية يروج آيات الله لرؤية شيعية أكثر توافقا مع الأيديولوجية الثورية للجمهورية الإسلامية. بعد تخلصها من قيد صدام حسين، تشهد الحياة الدينية في النجف ازدهارا. ولم يعد الأمن يمثل مشكلة بالصورة التي كان عليها عام 2004. وفي الوقت ذاته، تعاين المدينة انتعاشا اقتصاديا. وبعد النفط، تعد السياحة الدينية أهم صناعة في العراق حيث تجلب عملة صعبة تفوق تلك التي تدرها الزراعة، وتتركز هذه السياحة في النجف. ويتولى مطار دولي جديد نقل الحجيج - الذين تنتمي غالبيتهم لإيران - إلى النجف. وليس هناك مكان خارج إيران أفضل من النجف يمكن للدبلوماسيين من خلاله التفاعل مع إيرانيين عاديين من مختلف الشرائح الاجتماعية. وذلك لأن جميع الإيرانيين تراودهم الرغبة في القيام بالرحلة التي كانت محظورة بسبب الحرب واعتبارات سياسية. ويجري افتتاح فنادق جديدة باستمرار، ويتنافس العملاء على الفوز بمقاعد داخل المطاعم الجديدة بالمدينة. المؤسف أن الأموال الإيرانية تقف وراء معظم أعمال البناء الجديدة. وتكشف مقارنة ازدهار أعمال البناء والتشييد في النجف بالجمود الذي أصابها في بغداد الكثير عن مستقبل البلاد، وكذلك إخفاق المساعدات الأميركية والحكومة المركزية العراقية.

باعتباري مسؤولا أميركيا عام 2004 - عندما عملت مستشارا سياسيا لحكومة الائتلاف المؤقتة - وزائرا أميركيا عام 2010، قوبلت بالترحيب داخل ضريح الإمام علي، أقدس الأضرحة عندهم في النجف. وفي يناير (كانون الثاني)، زرت أحد كبار آيات الله ومكتبي اثنين آخرين منهم. وأعرب كل منهم عن ترحيبه بفتح حوار مع الأميركيين. في الواقع، لقد قضى عدنان الزرفي، المحافظ المنتخب للنجف، سنوات منفاه في ديربورن بميتشيغان.

ومع ذلك، ما تزال الشكوك تراود الشيعة حول حقيقة النوايا الأميركية. ففي خطاب شهير ألقاه في فبراير (شباط) 1991، دعا الرئيس جورج بوش الأب «الشعب العراقي لتولي زمام الأمور وإجبار صدام حسين على التنحي». وبالفعل، استجاب الشيعة لرسالة بوش وانتفضوا، لكن بوش أعاد التفكير في موقفه وقرر الاكتفاء بالمشاهدة بينما كانت دبابات ومروحيات صدام حسين تسحق الانتفاضة. وفي نهاية الأمر، ألقي بآلاف الشيعة في مقابر جماعية. لذا، داخل كل معهد ديني شيعي، يتساءل الطلاب ورجال الدين حول ما الذي يمكن أن يدعوهم مجددا للوثوق بالولايات المتحدة بعد أن تخلت عنهم عام 1991، ويتهمون البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع بتحيز دائم ضدهم.

ويعد هذا الخطاب، الذي تشجعه إيران، مجحفا لآلاف الأميركيين الذين ضحوا بأرواحهم وأطراف من أجسادهم لتحرير النجف عام 2003، ومجددا العام التالي عندما ساعدت قوات أميركية في تخليص المدينة من ميليشيات مدعومة من إيران. لكن الحرية التي نالتها النجف ستفقد أهميتها إذا لم توفد واشنطن دبلوماسيين بصورة دائمة إلى المدينة التي تكافئ بالنسبة للشيعة مكانة الفاتيكان للمسيحيين، وإلا فسنترك لأعداء أميركا حرية تشويه إرثنا. في خطابه الموجه للمسلمين من القاهرة الصيف الماضي، أعلن أوباما أنه يسعى لإقرار «بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، بحيث تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل»، وأضاف أن واشنطن «ستدعم عراقا آمنا موحدا باعتباره شريكا له، وليس سيدا يتزعمه». وبالنسبة لأكثر من نصف سكان العراق، و90% من سكان إيران ستبقى كلمات الرئيس من دون معنى حقيقي إلا إذا مضينا قدما في محاولات التواصل مع العالم الشيعي.

* عالم مقيم لدى «أميركان إنتربرايز إنستيتيوت».. ومحاضر بارز لدى المدرسة البحرية للدراسات العليا.

* خدمة «واشنطن بوست»