ثقافة «البَوّ»

TT

البَوُّ هو جلد رضيع البقرة الذي مات، يحشوه الفلاح بالقش أو التبن ليبدو وكأنه الوليد ذاته، كي ترى البقرة صورة ابنها الممدد أمامها وتشم رائحته فتدر له اللبن. وهذه حيلة شهدتها رؤى العين عندما مات رضيع البقرة في بيتنا، وأتى والدي بـ«البو» لاستحلاب البقرة الحزينة على موت رضيعها، وفي الأمر منفعة للجميع فنحن كنا نحتاج إلى اللبن والبقرة قد تتوجع إذا جف الحليب في ضروعها. كنت أظن أن الفلاحين في جنوب مصر هم من ابتكروا هذه الحيلة، إلى أن كبرت وقرأت مرثية الخنساء الشهيرة في موت أخيها صخر زمن الجاهلية حيث تقول القصيدة:

فما عجول لدى بَوٍّ تطوف به

لها حنينان إعلان وإسرار

أودى به الدهر فهي مُرْزِمة

قد ساعدتها على التحنان أظآر

يوما بأوجع مني يوم فارقني

صخر وللعيش إحلاء وإمرار

والعجول هي الناقة الثكلى الحزينة على موت رضيعها، والناقة المُرْزِمة هي التي تصوت حزنا على رضيعها، والأظآر هي النوق التي ترضع غير أبنائها من شدة حنينها إليهم ولتتقبل فكرة الفقدان. ولا أدري هل الفلاح المصري هو الذي اخترع فكرة البو أم بدو صحارى الخنساء؟ ولكن، ما علاقة البو بالثقافة العربية بمعناها الشامل، ومنه السياسي حكومة ومعارضة؟

بداية، مفهوم «البو» جامع مانع في ما يخص تشخيص وتحليل النظم السياسية العربية، ولكي لا تظن بي الظنون، أبدأ بتطبيق مفهوم «البو» على بلدي الأصلي مصر ونظامها السياسي. النظام السياسي في مصر هو مولود طبيعي للمجتمع الفلاحي النهري، فهو ليس مجتمعا صناعيا ولا بدويا، لذا يلجأ أحيانا إلى الحيل الفلاحية ذاتها من أجل خلق وهم المعارضة، وأولها جلد معارضة محشو بالقش يظنه الظمآن للديمقراطية منافسا حقيقيا وعجلا حقيقيا. معارضاتنا مجرد بو، وهذه ليست «تمخيخة»، كما تصورها أحد نقادي في مصر، فالكل يعرف ذلك ما عدا المعارضة ذاتها، والكل يجاهر بهذه الحقيقة ما عدا طرفي صناعة الوهم: الحكومة وبوها أي معارضتها المخترعة أو الوهمية. الحكومة تلجأ إلى هذه الحيلة من أجل استدرار اللبن الوطني حتى يقتنع الناس بأن لديهم منافسة. وقد تجلى ما أعنيه بأوضح صوره في الانتخابات الرئاسية الفائتة، حيث نفخت الحكومة «كام جلد عجل ميت» ممن كانوا من رعاياها وأبنائها، وقدمتهم للوطن على أنهم منافسون حقيقيون وكأن البلد خال من العجول العفية. البلد مليء بصغار العجول وكبار العقول ممن يستطيعون المنافسة على أي منصب، ولكن الحكومة تفضل البو. ولما جاء معارض حقيقي مثل محمد البرادعي، وشمت البقرة رائحة من يمكن أن يكون رضيعها وامتلأت ضروعها باللبن، (التشبيه هنا مجازا، وتوقيرا ليس احتقارا)، أخذته الحكومة بعيدا عن أمه، وهبت صحف الحكومة وتلفزيوناتها تشوش على البقرة الأم لتقنعها بأن البرادعي ليس رضيعها وليس معارضا حقيقيا.

فكل ما تفعله الحكومة أن تسجن أي بو «كام سنة» وتنفخه وتملأه قشا، لكي نصدق أننا أمام حالة عجل عفي، وتصدق جماعات حقوق الإنسان، ويصدق ذلك البيت الأبيض ولا يدري بالخدعة الفلاحية اللئيمة التي جعلت من البو مصدرا لاستدرار اللبن والعطف والتأييد.

الأمر ذاته ينطبق على الثقافة العربية المعاصرة، فحتى الآن لم نسمع أو نقرأ أو حتى نشاهد المثقف المستقل، معظم من طرحتهم الحكومات أو الأحزاب والشللية أمامنا كمثقفين، كانوا مثقفين محشوين بالقش، أي بو ثقافي، منهم من تقاعدوا من العمل الدبلوماسي أو من الموظفين الذين عينتهم الحكومة في الصحف التي أممتها الثورة، وحولت موظفيها إلى كتّاب أعمدة لا علاقة لهم بمسألة الثقافة. الثقافة في عالمنا العربي سبوبة وتربطيات، فإن لم تنتم للحكومة أو لمعارضتها المنظمة عن طريق الشلل أو الجماعات المغلقة فلن تكون مثقفا في عرف العامة، لأنك لن تتمكن من الوصول إلى أدوات الحكومات من صحف وتلفزة وغيرها، ولن يقبلك أهل المعارضة الذين هم أكثر انغلاقا من الحكومات، فهم مثل المجتمعات السرية التي تريد منك أن تعلن ولاءك قبل الدخول، وهذا أمر منافٍ لفكرة الثقافة ذاتها. وقد كتبت على صفحات هذه الجريدة عن ثقافة الموظفين من قبل في نقد ما يدعى له بمؤتمر ثقافي عربي. إن من تراهم في المؤتمرات الثقافية العربية لا علاقة لهم بالإبداع أو الثقافة كمنتج، المهم أن يكون له كفيل يضع اسمه على قائمة المؤتمر أو يفرضه كأمين عام لمؤسسة ثقافية. والكفيل ليست فكرة خليجية كما يحلو لأهل الوديان أن يجعلوا منها أمرا خليجيا حصريا. الكفيل حالة عربية عامة، فكل من يعمل في صحيفة أو تلفزيون أو في وظيفة عامة في مصر له كفيل، ولكنها ضمن إطار معادلة «المعلم والصبي»، وهي المعادل المصري الموضوعي لمسألة الكفيل.

والأمر لا ينطبق على الثقافة والسياسة، وإنما أيضا على حالة التدين السوقية السائدة، فرغم وجود الإسلام النقي في قلوب المؤمنين الذين توارثوه أبا عن جد، نرى من اخترع لنا بوا دينيا يبدو وكأنه رجل الدين يلبس لباسه يتمايل على طريقته ويلبس عباءته البيضاء على واحدة من الفضائيات ويريد أن يقنعنا بأن الدين معلق بعباءته إن لم نتبعه ونمشي على هداه كنا من التائهين، ومع ذلك لا هو رجل دين ولا رجل دنيا، هو مجرد بو. الدول التي ليست لديها معارضات سياسية داخلية أو ليس لديها مجتمع مدني حقيقي تحاول أن تخلق ذلك على الهواء، من خلال شاشة أو راديو أو حتى صحيفة، لنصبح أمام حالة «البو» الإلكتروني.

الدولة كلها أحيانا عبارة عن «بو» كبير، فالبو ليس صناعة فلاحية محلية، البو أيضا قد تصنعه ظروف عالمية لا محلية، كأن يكون لدينا بطل شعبي هو مجرد بو أي ليس حقيقيا. فمثلا بعد سطوع نجم أميركا، وتراجع الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية التي راحت تنكمش لتصبح دولة ذات حدود واضحة - بدأ مشروع فك الاحتلال البريطاني وانسحابه من المستعمرات، فتركت بريطانيا الهند وأفريقيا وبعض الدول العربية بالتدريج من الخمسينات في القرن الماضي حتى السبعينات في بعض دول الخليج، ومن هذه الدول مصر طبعا. لم يسأل المصريون أنفسهم مثلا، لماذا فشل أحمد عرابي ذو الشعبية الكبيرة ومن بعده سعد زغلول الوطني الكبير ومصطفى كامل في تخليص مصر من المستعمر البريطاني، بينما نجح ضباط ثورة 1952 في إنهاء الوجود البريطاني في السويس؟ عرابي كان ضابطا وربما أفضل تدريبا وأكثر شعبية من ناصر ورفاقه، لكنه فشل لأن بريطانيا لم تكن وقتها مستعدة للتخلي عن المستعمرات.

في مسرحية صامويل بيكيت «في انتظار غودو»، يقول أحد الشخصيات لصديقه الذي يتقزز وهو يراه يأكل اللفت المر: كلما أكلت منه بكثرة، تعودت عليه، ثم أحببته. أخشى أن نكون جميعا قد تعودنا على حالة البو في الثقافة والسياسة، وقبلناها كحالة طبيعية عندنا، وما دمنا تحدثنا كثيرا عن تفكيك الاستعمار وعن تفكيك المستوطنات، فلا بأس لو تحدثنا ولو قليلا عن تفكيك ثقافة البو.