كلام مختصر في مسألة بسيطة

TT

لا توجد مدينة في السعودية، أيا كان حجمها، سواء كانت عاصمة مترامية الأطراف مثل الرياض، أو مدينة ساحلية كالخبر والدمام وجدة، أو مدينة داخلية مثل تبوك وحائل والهفوف والمدينة ومكة وأبها، إلا ومن الممكن أن ترى فيها نساء على قارعة الرصيف في الأسواق المركزية بوسط المدينة «باسطات» بعض اللوازم التجارية من مأكولات بسيطة أو أقمشة أو ملابس أو مستلزمات للمنزل أو للأطفال، يعرضن ما لديهن من سلع للبيع أمام المارة والعامة. كل ذلك يحدث يوميا بشكل تلقائي وبسيط وآمن من دون مضايقات ولا إزعاج ولا تشكيك في النوايا ولا تعرض للسمعة والأعراض. ولذلك كان أمرا «طبيعيا» وتطورا منتظرا أن تقوم إحدى كبرى شركات محلات التجزئة المتخصصة في التسوق المنزلي أو كما يعرف اقتصاديا بمحلات (السوبر ماركت والهايبر ماركت) بتوظيف سيدات للقيام بعمل «أمينة صندوق» لمحاسبة المتسوقين في هذه المحال من أسر لا هم لهم إلا قضاء حاجاتهم والذهاب إلى حالهم.

مسألة بسيطة جدا، ولكن هناك من رأى أن ما قامت به هذه الشركة هو «نفاق» و«تغريب» و«جريمة» و«زندقة» و«فسق» و«اعتداء على حرمات الله»، وغير ذلك من الأوصاف المعروفة والمعدة سلفا للهجوم، كما تعد القنابل الحارقة على الأبرياء وتقذف على رؤوسهم! في استفساري عن نوعية المتقدمات والمعينات في مبادرة الشركة لتوظيف أمينات الصندوق، تبين أن معظمهن صاحبات الدخول الدنيا، وهناك حالات أرامل أو مطلقات ولديهن أطفال عيال عليهن أو أب أو أم في حالة صحية حرجة، وبالتالي كل الحالات كانت تعاني وبشدة من مسألة العوز المالي الحرج، والعمل في حالاتهن ليس «تسلية» أو «لقضاء وقت الفراغ» ولكنه مسألة في غاية الأهمية لصون الأنفس وسد أبواب الحاجة والتوسل المهينة والمذلة.

السعودية قامت بجهود عظيمة لتعليم البنات وتوظيف المناهج والبنى التحتية لخدمة نصف المجتمع، وذلك لمحو الأمية عنهن ومنحهن سلاح العلم ليكون بأيديهن إذا ما شئن دخول سوق العمل كسبا للرزق الحلال. ولكن حتى اليوم لا يزال عمل المرأة محل احتجاج واعتراض غير مفهوم. فالاحتجاج - بحسب «التبرير» الذي أعلن في الشبكات المتشددة وعلى بعض المواقع بالإنترنت - هو أن عمل المرأة في السوبر ماركت سيعرضها للاختلاط، بينما يغفل مصدرو هذه الآراء أن السوبر ماركت نفسه - مثل سائر الأسواق الأخرى - مكان اختلاط، ومن الطبيعي أن تجد الأسر تتسوق وتتبضع وتقضي أغراضها وترحل في سلام. ولكن أن تكون الحملة «المنظمة» لمقاطعة المحال وتهديد ملاكها والدعاء عليهم ونعتهم بأسوأ الأوصاف، وكل ذلك باسم الدين، فهي مسألة بحاجة لوقفة جادة خصوصا أن هذه المحلات ما فعلت ذلك إلا لتأمين اللقمة الشريفة لسيدات هن في أمس الحاجة إليها، مطبقين مبدأ التكافل الاجتماعي بشكل عملي يحفظ ويصون كرامة المرأة وأسرتها.

وطبعا أدت هذه الحملة المنظمة والمليئة بالمغالطات الشرعية إلى أن تخضع الشركة للحملة وتلغي مبادرة توظيف «أمينات الصندوق» وتقر ضمنا أنها تراجعت. المرأة في السعودية تعمل في صون وعفاف وكرامة في مواقع مختلفة ويشهد على ذلك القطاع الطبي بحالات من النجاح ترفع الرأس وتسر العاقلين.

الذاكرة السعودية لا تزال حية وحاضرة ببعض المعترضين على تعليم البنات والأصوات العنيفة التي كانت تندد بخطوة الدولة هذه، حتى بات اليوم عدد الخريجات يفوق عدد الخريجين، ولكن يبقى سد العمل سورا منيعا أمامهن.

التراث السعودي القريب مليء بالمواقف والقصص والحكايات التي تروى عن المرأة في الرعي والزراعة والحصاد والبيع والشراء والتجارة، وهو دور كان طبيعيا جدا دون «دراما» أو تهويل أو تضخيم لأنه مستمد من الفطرة البشرية التي تبنتها روح الإسلام الصحيح من دون أن تلوث ذلك الجاهلية الاجتماعية المنتجة للتطرف والتشدد.

أن تعمل المرأة كأمينة صندوق في متجر عام ومفتوح للعامة لا خلوة فيه ولا يعرضها لأي خطر، هو مسألة مقبولة كما أباحها العقلاء من أهل الدين، ومن الخطورة اعتبار عملها في مثل هذه المنشأة المحترمة مسألة «خارجة عن الشرع»!

الحلال بين والحرام بين.. فلنعتبر.

[email protected]