من شاعريات السياسة

TT

لا يخلف الساسة لبلادهم منجزات حكمهم فقط، بل وشيئا من درر البلاغة. لا أتذكر الكثير مما تركه ساستنا، ولكننا جميعا نردد هذه الصورة الشاعرية لنوري السعيد حين تكلم عن وضع العراق في تلك المرحلة.

لا أجد ما يدل على تفاهة بعض ساسة العالم اليوم أكثر من جدبهم في الإدلاء بأي كلمة بارعة تخلد في أذهاننا. بيد أن العالم في أيام الخير عج بالكلمات البليغة التي كانت تتدفق على ألسنة الساسة ورجال الحكم. برز منهم لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية خلال الحرب العظمى. أسند وزارة الحرب للورد كتشنر، وما لبث أن وصفه بهذه الكلمات: «إنه واحد من تلك المنارات البحرية الدوارة التي تشع بضيائها لثوانٍ قليلة، وتبعث بشعاعها بعيدا في أعماق الظلمة المحيطة بها، ثم تخبو فجأة وتخلد إلى ظلام تام دون أي مراحل متوسطة».

وتحدث عن قائده المارشال هيغ فقال: «رائع... إلى قمة حذائه!».

وكان بالطبع يكره تشرشل الذي كان في حزب الأحرار ثم انقلب عليه وانتمى إلى حزب المحافظين. قال عنه: «إنه مستعد لأن يصنع طبلا من جلد والدته ليطبل بالمديح لنفسه». وتحدث عن الأثر الذي سيتركه بلفور على صفحات التاريخ فقال: «إنه لن يزيد على نسمة العطر المنبعثة من منديل في جيب امرأة».

بالطبع يعرف العالم الآن، ولا سيما اليهود منهم، بطلان هذا الوصف بعد كل ما جرى في فلسطين.

وتكلم عن اللورد نورثكلف فقال: «التحالف مع نورثكلف أشبه بالخروج في مشوار مع جرادة». أما اللورد كرزن فوصفه قائلا: «إنه في داخل الوزارة يساوي طنا من التنك... ويعطي كذلك صوتا كالتنك». وتكلم عن السياسي الوديع أوستن تشامبرلن فقال: «يقف مثلما يقف اللقلق على شواطئ بحيرة لوكارنو».

وسألوه يوما عن رأيه في السير جون سايمون، السياسي الذي آثر الوقوف على الحياد وعدم الزج بنفسه في القضايا الخلافية، فأجاب قائلا: «لقد جلس على السياج مدة طويلة حتى دخل الحديد في أعماق روحه».

وبالطبع عانى الكثير من السياسي الآيرلندي الثائر وزعيم حركة استقلال آيرلندا، إيمون ديفاليرا، ودخل معه لويد جورج في تلك المفاوضات الماراثونية الشائكة التي أدت في النهاية إلى تقسيم البلاد وإعطاء الاستقلال للقسم الجنوبي من الجزيرة. وقد وصف المفاوضات مع ديفاليرا بهذه الكلمات: «التفاوض مع ديفاليرا أشبه بمحاولة التقاط الزئبق بالشوكة!».

وكان اللورد غلادستون قد وصف قبله التفاوض مع الآيرلنديين فقال: «لن تستطيع الوصول مع الآيرلنديين إلى حل للمسألة الآيرلندية، فحالما تقترب من حل لها يغيرون المسألة».

وهو ما ينطبق على المسألة الفلسطينية، دون أن أعرف من الذي يغير المسألة في كل مرة.