اليوم أوقفت أميركا عملياتها.. فماذا بعد؟

TT

بعد أسابيع من حرب 2003 أعلن الرئيس جورج بوش انتهاء العمليات القتالية، وبعد بضعة أسابيع أخرى ظهر حجم الخطأ في تقدير الموقف، فاضطر إلى دفع المزيد من أفضل قواته المقاتلة على مدى أربع سنوات، لمجابهة حرب غير نظامية أخطأ الجميع في قراءة احتمالاتها.

ومع أنه لم تكن لدى النظام السابق خطط لمرحلة ما بعد الفشل النظامي. وعلى الرغم من الوجود الأميركي الكثيف حول مكان اختبائه، تمكن صدام من ترتيب شبكة اتصالات لتشكيل مجموعات قتالية أعطاها اسم «جيش محمد». ونجحت هذه المجموعات في شن نحو ألف هجمة خلال فترة وجيزة. كما نجح تنظيم القاعدة في تأمين حضور قوي له على الساحة، وأكد سياق الأحداث أنه باشر بعملية دفع كوادره من خارج العراق بوقت مبكر، ما يدل على أنه قرأ احتمالات نتائج المجابهة جيدا.

بعد 3 أشهر من سقوط النظام، وصل عدد الهجمات اليومية إلى ما يزيد على 25 هجوما يوميا، قبل أن تنقل مجموعات من الانتحاريين العرب ساحة الصراع إلى مرحلة الرعب. مع ذلك، سجلت الخطوط البيانية للنشاطات المسلحة تذبذبا قابلا للاحتواء، لولا التخبط في سياسة بناء الحكم الجديد وشعور العرب السنة بالعزلة. وأحدث تفجير مراقد سامراء شرارة أشعلت حربا طائفية رمت فيها أوكار الإرهاب الإيرانية بثقل يدل على لؤم كبير. أعطى فرصة تاريخية لتنظيم القاعدة للترويج لمشاريعه مؤقتا. فارتفع عدد الهجمات اليومية إلى أكثر من 200 هجمة.

ولولا التغيير في استراتيجية القوات الأميركية وقبولها بالتعامل مع جماعات مسلحة ضمن جهد كبير سمي لاحقا بالصحوة، ولولا 30000 مقاتل من قوات الضربة وصلت لاحقا، لحرقت الحرب الأهلية كل ما تبقى من العراق.

والحقيقة التي لا شك فيها هي أنه لولا أميركا وإيران لتمكن البعثيون والجماعات المسلحة الأخرى من اجتياح العراق قبل أن يتحاربوا من أجل السيطرة عليه، ولما بقي أحد من سياسيي 2003 في العراق. وكان على الأميركيين فهم المعادلات التي أدت إلى هذا الوضع. فمن دون فهم دقيق، لا يمكن قراءة أفق لعراق مستقر.

وأثبتت الأحداث الأخيرة أن الأمن لا يزال زائفا، ولا مجال لتوقع نجاح سياسة فرض الواقع على العراقيين. وسواء شاء الأميركيون أم رفضوا، فإن الانزعاج العربي من حالة العراق أهم من إرضاء نظام ولاية الفقيه في إيران، الذي لن تتوقف أطماعه إلا بجر العالم إلى حرب إقليمية لا سابق لها، إن لم يردع. وهذا يتطلب وجود حكومة في بغداد تنهض بمسؤولية المشاركة بالردع بطريقة ما، ليس بالضرورة المجابهة.

على الرغم من كل السلبيات، فإن الصراع السياسي الشيعي - الشيعي على مواقع الحكم أدى إلى تخفيف الاحتقان الطائفي، ما يعتبر نقلة مؤثرة قابلة للتطور إلى حالة نوعية في أفقها الوطني، لكن ليس على أساس فرض استمرارية لواقع سياسة الفشل الحكومي. أما مساندة الأميركيين للمالكي فمبنية - في أفضل ظن - على تقدير خاطئ للموقف. فتجديد الاتفاقية الأمنية الذي تعهد به يمكن تحقيقه مع الآخرين. والمبالغة المفرطة في قدرته على زعزعة الأمن لو حرم من ولاية ثانية، تقدير سطحي لا يستند إلى أساس منطقي. وعدم الاعتراف في علاقته المميزة مع إيران يدعو إلى الريبة أو الاستغراب على الأقل.

السفير الأميركي الجديد لدى العراق خمن وقوع ربع خسائر قواتهم البشرية بسبب الدعم الإيراني. وهو تخمين يبدو معقولا. ومهما قيل عن تراجع النفوذ الإيراني فلا يزال ضمن مساحة الخطر الرئيسي. فهدفه على المدى البعيد هو تحويل العراق إلى ضيعة إيرانية.

الحديث عن أن مهمة القوة الأميركية المتبقية البالغة خمسين ألف جندي تتحدد بالتدريب والإمداد اللوجيستي تخالفه ضخامة الرقم، الذي يضم ما لا يقل عن ثلاثين ألف مقاتل يعملون في تشكيلات قتالية. وستضطر الحكومة في حالات كثيرة إلى طلب دعم قتالي مباشر منها. والذي يمتلك مثل هذا النفوذ عليه ممارسته في سبيل فرض مصالحة وطنية، ولمنع سيطرة نفوذ طائفي على الحكم، وليس العكس. وبخلافه، تفقد «المصداقية» ما بقي من عناصرها.