قهوة تركي سكر زيادة!

TT

جمعتني أمسية رمضانية هادئة برجل أعمال تركي مرموق له استثمارات وأعمال واسعة في العالم العربي، كان يتحدث معنا بثقة وعلم وأدب ورؤية واضحة نالت استحسان وغبطة الحضور، مما استدعى أحدهم أن يتنهد بحسرة ويقول: «راحت على العرب، إنه العصر التركي كما يبدو واضحا». ولكن هل ما يحدث الآن من نجاحات «تركية شعبية» يعتبر فعلا تجربة ناضجة وكاملة ويمكن تقليدها؟ فالاحتفال بالمسلسلات التركية والإقبال على زيارة تركيا بقصد السياحة والتلذذ بالأطعمة والمأكولات التركية وزيادة جرعات القهوة التركية، بل وحتى الزواج من تركيا بأعداد متزايدة، كل ذلك لا يفسر ويبرر قبول عامة العرب للظاهرة التركية ببساطة.

ولكن يبدو أن تركيا وجدت «إجابات» كان يسعى لها العرب منذ فترة ليست بالقصيرة. فهم تمكنوا من إيجاد حل توافقي بين الدين والسياسة بحيث لا يكون هناك تداخل فيتحول إلى اشتباك يولد صداما. وكذلك تمكنوا من إيجاد حل لدور الدولة في الاقتصاد وأهمية التعلم في تهيئة المجتمع السوي. ولا يزالون في مراحل سعي مستمر ومتطور لوضع حلول للعلاقة بين أطياف المجتمع المختلفة طائفيا ودينيا وعرقيا، وخطوا فيها خطوات مهمة جدا، وطبعا تركيا لديها سجل مهم وممتاز في تحقيق العلاقة السوية والمتزنة بين الغرب والشرق.

اهتمت تركيا بشكل مكثف بأن تطور من نفسها وتتبع المعايير والمقاييس والمواصفات والأساليب الغربية في الإدارة والإنتاجية والجودة فبات لخدماتها وسلعها ومنتجاتها الصيت الإيجابي والمكانة المحترمة والمعايير اللائقة، وصارت تشبه بأهم وأفضل الدول المصنعة والمنتجة حول العالم في صناعات شتى بعد أن كانت لها سمعة رديئة جدا لفترة ليست بالقليلة. اهتمت بالعلم والتعليم والأدب والثقافة وبات الإقبال على الموسيقى والكتاب والسينما والتلفزيون التركي من باب الجدارة وليس من باب الفضول فقط، وكل ذلك ساهم بحق في صنع الفخر والاعتزاز بالهوية التركية الجديدة بعيدا عن الشعارات والعبارات الفارغة التي ترددها شعوب أخرى عملا بالظاهرة الصوتية دونما إنجاز وأفعال.

واليوم تركيا لها باع مهم وفعال في تطوير الفكر الوسطي والتسامحي والإنساني في الخطاب الفكري والثقافي الأممي للسلام. فكل متابع منصف وأمين يعلم تماما مكانة «النورسي» وكتابه الكبير «رسائل النور» وحجم التأثير الذي أحدثه بشكل جميل لمن اطلع عليه حول العالم، وكذلك يعيش اليوم «فتح الله غولن» وسط أحبابه حول العالم وهو يبلغ من العمر 77 عاما يعلم طلبته ومتابعيه المعاني السمحة للدين بتعاليم تطبيقية تشمل الجانب العملي الإنتاجي للحياة مما مكنه من أن يكون مجموعة اقتصادية غير ربحية متكاملة وناجحة جدا تهتم بقطاعات النشر والتعليم والطباعة والقرطاسية والتموين والزراعة والغذاء، فلا يوجد أحد ممن يعملون معه يتسول أو يطلب مساعدة، فالإنتاج هو الفيصل والحكم. إنه فكر جديد وإنتاج مهم.

لا تزال التجربة التركية مستمرة في مفاجأة متابعيها وكل يوم تزودهم بالجديد، وهي تجربة لا تزال في طور التطور والتطوير والتعلم والتعليم، ولكنها حتما تسير في طريق جميل تمكن في فترة قصيرة من أن يبهر الكثيرين وينال احترامهم، وهذا بحد ذاته إنجاز في زمان قلت فيه الإنجازات.

[email protected]