البلوى التي أصابت المسلمين

TT

سجل حركة طالبان الأفغانية في مجال تعليم البنات معروف ومثبت بالفتاوى التي أصدرتها الحركة عندما كانت تحكم في الفترة ما بين أعوام 1996 و2001 وحرمت فيها تعليم البنات بعد سن التاسعة. ويبدو أن الحركة لم تتعلم شيئا من تجربتها بعد إقصائها عن الحكم ولم تغير شيئا في مفاهيمها البالية التي أساءت إلى الإسلام والمسلمين بكثير من الممارسات التي تخالف سماحة الإسلام، وأنها إذا عادت إلى الحكم فسوف تعيد ذات الممارسات التي جعلت من فترة حكمها نموذجا للعسف والقهر والتخلف.

فقد ذكرت إحصائية أصدرتها وزارة التربية والتعليم الأفغانية أن أكثر من مائة مدرسة تعرضت للقصف أو لمحاولة حرقها خلال الفترة من أبريل (نيسان) إلى أغسطس (آب) من العام الماضي، وذلك في إطار حرب يشنها مقاتلو «طالبان» والمعارضون لتعليم البنات، ضد المدارس. كذلك شكت عائلات أفغانية من تلقيها تهديدات بالضرب أو حتى بالقتل إذا لم تتوقف عن إرسال بناتها للمدارس.

أما أحدث التقارير الواردة في إطار الحرب على تعليم البنات في المناطق التي يوجد فيها مقاتلو طالبان فتشير إلى تكتيك جديد بشع أدى إلى إثارة الهلع بين الطالبات والمعلمات على حد سواء. فبعد توزيع منشورات قرب المدارس تدعو إلى الامتناع عن «التعاون مع الأجانب» وإلى «إنقاذ أخواتنا الأفغانيات» حدثت حالات إعياء وتقيؤ بين الطالبات والمعلمات في بعض المدارس، وصفت بأنها نتيجة هجمات بغاز سام. وفي إحدى الحوادث التي وقعت قبل أيام انتشر الفزع في مدرسة بأحد أحياء شرقي كابل عندما بدأ عدد من الطالبات يشعرن بالإعياء الشديد وأغمي على بعضهن، مما دفع بإدارة المدرسة إلى الإسراع في إخلائها قبل أن يستفحل الأمر. وعانت 45 طالبة وتسع معلمات من مظاهر الإعياء والتقيؤ التي استدعت نقل 22 منهن إلى المستشفى.

ورغم أن البعض أثار احتمال أن يكون تكرار هذه الحالات في مدارس متفرقة ناجما عن نوع من «الهستيريا الجماعية» بسبب الخوف من التهديدات وبعد انتشار الأخبار عن نشر غازات سامة في المدارس التي لم تمتثل لتلك التهديدات، فإن طبيبا بالمستشفي الذي عولجت فيه الطالبات قال في تصريحات صحافية أوردتها صحيفة «الغارديان» البريطانية إن الإعياء الذي أصاب الطالبات كان بسبب غاز سام. أما وزارة التربية والتعليم الأفغانية فقد ذكرت أن حالات مشابهة حدثت في 16 مدرسة منذ بداية العام الحالي منها خمس مدارس في العاصمة كابل والبقية في مناطق أخرى.

الغريب أن الملا قاري يوسف أحمدي الذي يوصف بأنه المتحدث الإعلامي باسم «طالبان» قال في حوار عبر البريد الإلكتروني نشرته «الشرق الأوسط» يوم الأحد الماضي إن الحديث عن أن النساء الأفغانيات يتخوفن من أنباء المصالحة مع طالبان أو عودتها إلى الحكم «جزء من الحرب النفسية التي يروجها الاحتلال ووسائل إعلامه». وأشار إلى ما وصفه بالأمن الذي حققته حركته عندما حكمت، مضيفا أن السبب المباشر لتأسيس حركة طالبان عام 1994 «كان انعدام الأمن على طرقات أفغانستان وعلى الأخص ما تعرضت له العديد من السيدات من اختطاف واعتداء على يد المسلحين المنتشرين على طرق البلد». أي إن الملا قاري يوسف يقول إن «طالبان» جاءت لحماية المرأة، رغم أن ممارساتها خلال فترة حكمها تشهد بأن القمع كان هو العنوان البارز لـ«الأمن» الذي تتحدث عنه، وأن المرأة عانت القهر والتهميش ومنعت من العمل حتى في مجال التعليم، وأمرت بالبقاء في المنازل.

بل إن الملا قاري يوسف عندما سئل عما سيفعلونه بآلاف من مدارس البنات التي أنشأتها حكومة كرزاي إذا عادوا إلى الحكم، لم يتوان عن أن يقول كلاما مدهشا في بعده عن الواقع والحقيقة. إذ قال الرجل: «سوف نبني آلافا أخرى من مدارس البنات والأولاد، ويتحول التعليم كله إلى تعليم قائم على تعاليم الإسلام إلى جانب العلوم الحديثة التي تمكن شعبنا من بناء بلده دون الحاجة إلى خبرات خارجية». وهو في ذلك ينسى أن حركته عندما حكمت دمرت عشرات المدارس ومنعت تعليم البنات وسرحت المعلمات، وعندما لجأ الأفغان إلى المدارس السرية وتهريب الكتب لتعليم بناتهم متحدين قرار «طالبان»، جندت الحركة عناصرها لملاحقة المخالفين وإيقاع أشد العقوبات بهم خصوصا المعلمات اللائي حولن بيوتهن أو الكهوف في الجبال إلى فصول دراسية تتحدى الجهل والتجهيل.

«طالبان» ما تزال تعتبر نقد ممارساتها «طعنا في الإسلام ذاته»، وهذه مصيبة دالة على البلوى التي أصابت المسلمين جراء أفعال بعض حركات التطرف التي ترى نفسها نموذجا للإسلام الصحيح، فهي لا تريد أن تتعلم حتى من أخطائها وتعتبر كل ما هو مخالف لمواقفها فسادا يستوجب العقاب والتكفير. رأينا ذلك في الجزائر من خلال ممارسات بعض الجماعات المسلحة خلال حرب التسعينات، مثلما نراه الآن في مناطق سيطرة «طالبان» الأفغانية أو «طالبان» الباكستانية، وحركة «الشباب» الصومالية.. ممارسات تنسب إلى الإسلام وهي أبعد ما تكون عنه وعن سماحته ورسالته، لكنها نجحت للأسف في تشويه صورته.