الإقليم النووي!

TT

خلال سنوات قليلة سيصبح الشرق الأوسط كله إقليما نوويا؛ فبعد أن أعلنت مصر عن بدء خطواتها من أجل إنشاء أول مفاعلاتها في «الضبعة» في الساحل الشمالي المصري غرب الإسكندرية، وإعلان دول الخليج العربية، مع دول عربية أخرى، إضافة إلى إيران التي أطلقت مفاعلها في بوشهر، وإسرائيل التي لديها مفاعلان منذ وقت طويل؛ أصبح الشرق الأوسط إقليما نوويا بامتياز. وبالتأكيد فإن الحالة هكذا جديدة تاريخيا على المنطقة وتحمل في طياتها فرصا لا تحد؛ ومخاطر مميتة لا حدود لها. والفرص كامنة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية لكي تولد الطاقة الكهربائية، أو تقوم بما تحتاجه منطقة توجد في قلب الصحراء الشاسعة وهو إنتاج المياه العذبة للشرب والزراعة على نطاق واسع. أما المخاطر فهي هائلة لأن المفاعلات النووية لا تتحمل أخطاء من أي نوع، وفي منطقة لم يتعود أهلها على كثير من الدقة فإن القلق مشروع؛ وإذا كان في العالم تهديدات إرهابية فإن الشرق الأوسط يوجد فيه عصب الجماعات الإرهابية المنتشرة في الدنيا كلها تحمل الغضب والسلاح والفكر العسكري المنظم.

وبقي بعد ذلك ما كان الناس يخافونه طول الوقت، وهو أن يكون الإنتاج السلمي للطاقة النووية المقدمة الطبيعية للتسلح النووي وساعتها يكون الإقليم كله معرضا لحالة من توازن القوي والرعب النووي تكفي لبقاء الحال على ما هو عليه؛ أو أن يكون التوازن قلقا إلى الدرجة التي يتم فيها كسره في حرب نووية. المضمون هنا في التنبؤ أن حالة من السباق النووي سوف تحدث، ولكن ما دمنا خلال هذا العقد في المراحل التحضيرية للبناء الأول، فربما يكون سعدنا أن لدينا قدرا من الوقت لاتقاء الخطر، ورفع المعصية، والبحث عن نور الطاقة النووية.

وببساطة فإن المنطقة سوف تنتقل إلى حالة تكنولوجية جديدة. وكما قيل دوما فإننا إذا كنا لم ندخل عصر الفحم ولا عصر الكهرباء فربما آن الأوان للحاق بالعصر النووي. وعندما يكون العالم العربي وحده لديه سكان يبلغون 350 مليون نسمة فإن الحاجة إلى المياه لا يصورها عطش في صحراء قاحلة. وما يجعل الأمر ملحا أن مصادر المياه القائمة كلها مهددة، سواء تلك التي تأتي إلى العراق وسورية من تركيا، أو تلك التي تأتي من أعالي النيل والهضبة الإثيوبية إلى مصر والسودان. الطاقة النووية سوف تخلق من أهل الصحراء مزارعين إذا أرادوا، وتحمي المزارعين المهددين في زراعاتهم بفقر وندرة الماء. والزراعة هنا هي التي تخلق جذور الأوطان، أما الصناعة فهي التي تخلق المجتمع الدولي، والخدمات بأنواعها هي عصب العولمة واختفاء الوطنية والقومية. المفاعل النووي وتحلية المياه والزراعة منها ليست فقط إضافة تكنولوجية، وإنما وراءها أبعاد اجتماعية واقتصادية هائلة.

هذه الأبعاد ذاتها هي التي جعلت بناء المفاعلات قرارا سياسيا صعبا، وظهر ذلك في مصر حينما جرى الخلاف حول موقع المفاعل الأول وهل يكون لبناء المفاعل أم لإقامة «المنتجعات» الساحلية؛ وبينما انحاز المجتمع في معظمه لبناء المفاعل، كانت الطبقة الرأسمالية، والبورجوازية في العموم، سائرة وراء المنتجع. وانتصر المفاعل على أي حال، والمجال متسع لبناء السياحة وألعاب الماء في أماكن أخرى، ولكن المسألة هنا تسجيل الصراع الاجتماعي الذي جرى حول القضية. ولكن هذا الصراع على المستوى الإقليمي سيكون أعمق، فلا يكفي الإعلان عن الإقليم النووي، ولكن لا تكتمل الصورة إلا بالإعلان عن الشكوك حوله. وقصة العرب مع السلاح النووي الإسرائيلي معروفة منذ وقت طويل، ولا تكاد تخلو من الموضوع مفاوضات عربية إسرائيلية؛ ولكن قصة السلاح النووي العراقي شغلت المنطقة بحربين في عام 1990 وعام 2003 لغزو العراق لتطهيرها من أسلحة الدمار الشامل، أو ما تم اكتشافه منها في الحرب الأولى، وما لم يكن موجودا في الحرب الثانية.

والحال الآن يدور شك حول السلاح النووي الإيراني، والحلقات تضيق حول قيادة إيرانية ملتهبة بكل الأخطاء التي ارتكبها من قبل زعماء آخرون؛ ولا يختلف أحمدي نجاد عن جمال عبد الناصر، أو صدام حسين، أو آخرين، وهو يعتقد الآن كما اعتقدوا، أن باستطاعته تغيير الدنيا دون ثمن فادح على بلاده.

التاريخ مليء بأنهار نزيف ضحايا حروب وضربات وقائية، ولا يعلم أحد متى يستبد الشك إلى درجة القتل والتدمير؛ فالأمر كله يظل على حاله من التوتر الشديد الذي يشبه تلك المبارزة بالمسدسات التي تجري بين فردين ينتظر كلاهما لحظة الإشهار وإطلاق الرصاص. وهذه المرة لن يكون في الأمر رصاص، ولكن أسلحة أخرى استخدمت مرتين في التاريخ البشري - هيروشيما وناغازاكي - وفي حرب واحدة. ولكن الوقت متاح لكي تكون النتيجة مختلفة، وهناك تجارب خلقت خيارات أخرى، فأصبحت أميركا الجنوبية، ومناطق أخرى من العالم، محرمة على السلاح النووي. وقدمت أوروبا تجربة فريدة عندما تم إنشاء «اليوراتوم» لكي يجعل المفاعلات النووية ليست مولدة للطاقة السلمية فقط، وإنما أيضا واحدة من أدوات التوحيد الأوروبي، ومن ثم منع الصراع والحرب. وفي أكثر من مرة كان النداء أن يكون الطريق الثاني عربيا أيضا، فنبني منظمة عربية للطاقة في عمومها تكون معنية بالمفاعلات كما تكون مشغولة بالطاقة الشمسية، ونقل الكهرباء وخطوط الغاز بين الدول العربية.

وباختصار يمكن للعرب إقامة نظام كامل لأمن الطاقة في المنطقة كلها يكون مفتوحا لكل من يريد اللحاق به حتى إسرائيل إذا ما كانت على استعداد للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، فيكون ذلك جزءا من المبادرة العربية التي تبادل السلام بالانسحاب. وبالنسبة إلى إيران فإن لحاقها بالمنظومة لا يقل أهمية لأن مفاعلها يطل على العرب من الجانب الآخر من الخليج، وحوادثه، لا قدر لها، لن تبقى آثارها على الجانب الإيراني من الماء، وسواء كان أحمدي نجاد عدوانيا أم لا فإن التجربة الإيرانية منذ الثورة تقول لنا إن الأحوال في طهران لا تبقى على حالها دائما.

المسألة إذن في إطارها الأوسع هي أمن الطاقة في منطقة مفعمة بمصادر التهديد من كل الأنواع، وعندما يكون الحال كذلك فإن إقامة نظام لأمن الطاقة تكون هي المدخل الذي يجنب النوائب، ويدفع الخطايا والشياطين بعيدا، وربما يقود الجميع إلى شطآن أخرى لم يعرفوها من قبل، مثل التنمية والرخاء وحتى التوصل إلى تسوية لصراعات تاريخية. وفي الظن أن إعلانا عن نظام عربي لأمن الطاقة في الشرق الأوسط ربما يعطي قوة دفع لمفاوضات التسوية الفلسطينية الإسرائيلية التي سوف تجري في واشنطن. إن العالم بمشكلاته صغير للغاية، ولا توجد قضية منفصلة عن أخرى!