الكلب لديه علم لا نعلمه

TT

هناك حوادث تكاد تقترب من الخيال رغم أنها واقعية (100%)، مثل تلك الحادثة التي ذكرها أحد مربي المواشي من الأغنام، وهو بالمناسبة رجل شبه بدوي، يقضي ثلاثة أرباع العام متنقلا بقطعانه إلى حيث الأراضي التي يجد فيها الكلأ، وعندما يحل الصيف يضطر للرجوع بها إلى حظائر له بالمدينة لتعليفها.

وقال لي: كنت قبل عام مع قطعاني في المكان (الفلاني)، وكانت الأعشاب وقتها متوفرة، فضربنا بيت الشعر واستقررنا سعداء، خصوصا أن الجو كان بديعا، وليس حولنا الكثير من الرعاة ليزاحمونا، وفي كل يوم يذهب الراعي الشاب الذي يعمل عندي منذ ستة أعوام، يذهب مع القطيع منذ طلوع الفجر للمرعى ولا يعود به إلا عند مغيب الشمس، يرافقه كلبي الوفي المتمرس الذي ولدته أمه عندي وله من العمر عشرة أعوام.

وفي أحد الأيام غابت الشمس ولم يعد الراعي ولا القطيع وانتابني القلق، ولكن ما هي إلا ساعة، وإذا بالقطيع يعود ومعه الكلب الذي يحافظ عليه، يمينا وشمالا، إلى أن أدخله في حظيرته، ولفت نظري أن الراعي لم يكن معه فازداد قلقي أكثر.

وشاهدت الكلب منهكا أكثر من المعتاد، فملأت وعاء الماء ووضعته أمامه فارتمى عليه وأخذ يشرب من شدة العطش، وصعقت عندما شاهدت غطاء الرس - أي (الغترة) البيضاء - التي كان يضعها الراعي ويتلفّح بها حول رأسه عليها آثار دماء، وهي تطوّق عنق الكلب الذي تلطخ وجهه وفمه كذلك بالدماء.

وأول ما خطر على بالي أن الكلب قد اعتدى على الراعي، واسودت الدنيا في وجهي، وأخذت أسائل نفسي بشكل سريع وأنا على يقين أن هناك أمرا جللا قد حصل، هل الكلب قد (استغلث) وقضى على الراعي؟!، كل أفكاري وتوقعاتي وهواجسي تلك لم تستغرق أكثر من خمس دقائق، عندها وصلت إلى قناعة تامة أن الكلب قد غدر بالراعي، ورغم محبتي الشديدة لذلك الكلب، فإن صدمتي فيه كانت أكبر.

فانطلقت أجري لبيت الشعر لآخذ بندقيتي لكي أقتل الكلب، وتفاجأت بالكلب يترك الماء ويجري خلفي نابحا وما إن وصل إلى أقدامي حتى نكص راجعا، وقد كرر ذلك عدة مرّات، إلى درجة أن حركاته وتصرفاته تلك قد لفتت نظر زوجتي، التي ما إن رأتني أضع الرصاص بالبندقية حتى تعلّقت بها تمنعني وهي تقول: إن الكلب لديه علم لا نعلمه، فلنعطه فرصة، وافقتها وركبت سيارتي لكي أبحث عن الراعي في هذا الليل الذي بدأ يطبق على الأرض بسواده، غير أنني تفاجأت بالكلب ينطلق أمام السيارة راكضا بأقصى سرعته، وأنا أتبعه أينما توجّه، وبعد طلوع ونزول وانحناءات كثيرة، وإذا به يوصلني إلى حيث يوجد الراعي الذي شاهدته طريحا من شدة الإنهاك بعد أن نزف منه الدم الغزير، وعرفت منه أنه كان يعبث بمسدسه الذي انطلقت منه رصاصة بالخطأ وأصابت يده، ولأنه لم يستطع مواصلة المسير أوعز إلى الكلب مشيرا له على القطيع أن يذهب به، ثم ربط (غترته) الملطخة بالدم على حلقه ليعلمنا بذلك، وقد فهم الكلب ما أراد، وهذا ما حصل.

ويقول لي ذلك الرجل: لو أنني تسرعت وقتلت الكلب فمن المستحيل أن أستدل على مكان الراعي إلا بعد أن يطلع النهار وعندها سوف يكون وضعه حرجا، وأكبر دليل أنني عندما نقلته بسيارتي إلى أقرب مستشفى، ووصلته في الرابعة فجرا، قال الطبيب الذي شاهده: لو أنكم تأخرتم ساعة واحدة لكان قد مات من كثرة ما نزف من الدم.

[email protected]