بعد سنوات الجنون

TT

فلل 300 متر مربع بـ400 ألف ريال، وشقق 180 مترا مربعا بـ200 ألف ريال، وبالتقسيط المريح. هذا ما كشفه تقرير البنك السعودي للتسليف والادخار، المقدم إلى مجلس الشورى، وتفضح هذه الأرقام حجم التباين بين الأسعار التي يحملها هذا المشروع الوطني، والأسعار التي يطرحها المستثمرون العقاريون، فحجم التباين بين الأسعار يضطر أصلع مثلي إلى أن يتمنى لو كان لديه شعر ليشده من هول الفارق، فالواقع يشير إلى أنه لا توجد فيلا في طول البلاد وعرضها بـ400 ألف ريال، فأي علبة إسمنتية اليوم في أي مدينة من مدن السعودية قابلة للسكن الآدمي تلامس أسعارها تخوم الخيال، وحينما يأتي بنك التسليف والادخار ليطرح مشروعا بهذه الأرقام، فإنه يضعنا أمام أحد احتمالين: إما أن يكون مشروع البنك خياليا، وإما أن بعض المستثمرين الحاليين في سوق العقار «مصاصو دماء»!

مشروع بنك التسليف هذا لو قدر له أن يتحقق فإنه سيشكل نقلة نوعية كبرى في حياة الناس، فجل المواطنين يعيشون في وحدات مستأجرة، وغالبية الشباب تمتص الإيجارات الجزء الأكبر من دخولهم الشهرية المتواضعة، ومشروع مثل هذا سوف ينبت الأمل من جديد في نفوس داهمها اليأس - أو أوشك - في أن يكون لها منزلها الخاص، الذي يحررها من قبضة بعض الملاك، فـ«الفكّة من جحا غنيمة»، ولذا لن يتوقف الكثيرون عند مواصفات فلل وشقق بنك التسليف، وسيتشبثون بالحلم بعيدا عن سطوة الكوابيس. أتمنى أن لا يخذل البنك أحلام البسطاء.

مثل هذا المشروع الوطني الكبير - لو قدر له أن يرى النور - فإنه لن يؤمن وحدات سكنية للمحتاجين فحسب، ولكنه يمكن أن يعيد أيضا إلى سوق العقار توازنها ورشدها وواقعيتها بعد سنوات من الجنون واللامعقول واللامبرر، أصابت الكثيرين خلالها حمّى العقار، فدفنوا أموالهم في الرمال في لعبة مخبولة، نعرف كيف بدأت، ولكننا لا نعرف كيف ستنتهي ذات يوم، حتى غدت مكاتب تجارة العقار في شوارعنا تنافس حوانيت المواد الغذائية، ومطاعم «البروست».

وحظا أفضل لجيل الشباب - الذين يشكلون الشريحة الأكبر في المجتمع السعودي - في أن تكون لهم منازلهم الخاصة، التي يؤسسون فيها لحياة أسرية سعيدة، بعيدا عن الضغوطات المادية التي يواجهونها الآن.

[email protected]