هدف رسالة عبد الله الثاني للإسرائيليين عشية المفاوضات المباشرة!

TT

تقصَّد العاهل الأردني عبد الله الثاني بن الحسين إعطاء حديث للتلفزيون الإسرائيلي «القناة الأولى» قبل انطلاق «المفاوضات المباشرة» بأربعة أيام، وكان الهدف توجيه رسالة للجبهة المنسية عربيا، رغم أهميتها، التي هي الجبهة الداخلية الإسرائيلية المغيبة تماما من قبل حتى الأشقاء الفلسطينيين الذين من المفترض أنهم الأكثر معرفة بأهمية هذه الجبهة في ضوء ما جرى في عام 1999 عندما تم إسقاط بنيامين نتنياهو وحكومته بالتعاون وبالتنسيق بين إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وبعض رموز السلطة الوطنية الفلسطينية وقادة فاعلين في حزب العمل الإسرائيلي وفي أحزاب يسارية على خلاف جدّي مع قوى اليمين في إسرائيل بسبب العملية السلمية.

جاء كلام الملك عبد الله الثاني في حديثه للقناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي الذي بثتهُ يوم السبت الماضي واستغرق زهاء ثمان وعشرين دقيقة، مباشرا وموجها للداخل الإسرائيلي عشية المفاوضات المباشرة التي من المفترض أن تنطلق اليوم (الخميس) في جلسة افتتاحية ستنعقد في مبنى الخارجية الأميركية، ولعل من سمع هذا الكلام وشاهد هذه المقابلة أدرك كم أن العاهل الأردني يولي أهمية قصوى لما يمكن اعتباره الأكثرية الصامتة في إسرائيل التي فقدت دورها المؤثر منذ اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين وسيطرة اليمين الأكثر تطرفا على مقاليد الأمور وعلى مجريات السياسة الإسرائيلية.

في هذه المقابلة جاء خطاب الملك عبد الله الثاني إلى الإسرائيليين العاديين، الذين تمكن اليمين الإسرائيلي من اختطافهم متكئا على انعكاسات كارثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، ومستغلا الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الفلسطينيون بشقيهم؛ السلطة الوطنية وحركة حماس في هيئة ترغيب وترهيب: «إن الأخطار التي ستواجه إسرائيل ستتفاقم في المستقبل ما لم يتم تحقيق السلام على أساس حل الدولتين الذي يشكل الضمانة الحقيقية للأمن والاستقرار للجميع في الشرق الأوسط».

وقال العاهل الأردني أيضا «إن نجاح المفاوضات ووصولها إلى حلٍّ يضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل في سياق إقليمي شامل وفق المبادرة العربية، يفتح الباب أمام الدولة الإسرائيلية لبناء علاقات طبيعية مع 57 دولة عربية ومسلمة تؤيد هذه المبادرة... إذا لم يكن هناك تحرك على الصعيد السياسي فإن الشعب الإسرائيلي سيبقى مهددا إلى الأبد، ولهذا فإن القرار يجب أن يتخذ، فإما أن تبقى إسرائيل تعيش عقلية القلعة إلى الأبد، وتبقوا أنتم تنظرون إلى الشرق الأوسط من وراء الجدران بينما نتقدم نحن بتعاون إقليمي وتكامل اقتصادي، أو أنه ستكون لديكم القدرة والشجاعة لتحطيم هذه الجدران ولتلتقي الشعوب، مما سيجلب الأمن الكامل للشعب الإسرائيلي».

إن هذه هي مجرد مقتطفات مختصرة مما قاله عبد الله الثاني بن الحسين في هذه المقابلة التي هي بمثابة رسالة عاجلة إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وحقيقةً أن المفترض أن تكون هناك إلى جانب هذه الرسالة، رسالة أخرى وبالمضمون نفسه والهدف إياه موجهة من لجنة المتابعة العربية إلى الشعب الإسرائيلي الذي يجب أن يسمعَ كلاما عاقلا من العرب غير ذلك الكلام البائس، الذي بقي يسمعه من المزايدين وتجار الشعارات والمراجل الفارغة عن بُعد، والذي ازداد شدة في السنوات الأخيرة.

كان يجب أن تبادر لجنة المتابعة العربية، ما دام أنها هي التي اتخذت قرار الذهاب إلى المفاوضات المباشرة نيابة عن العرب والفلسطينيين، إلى إسماع الجبهة الداخلية الإسرائيلية الكلام الذي يجب أن تسمعه في هذا الوقت بالذات، وهو أنه على الإسرائيليين أن يدركوا أن استمرار صراع الشرق الأوسط ليس في مصلحتهم وليس في مصلحة أجيالهم المقبلة وأن أمنهم وأمن أجيالهم هذه من غير الممكن تحقيقه وتوفيره إلا بالتوصل إلى حل عادل وشامل يعطي للفلسطينيين حقهم بإقامة دولتهم المستقلة المنشودة ويعطي للشعب الإسرائيلي الأمن والاستقرار والعيش بسلام مع كل شعوب المنطقة.

ربما يقال في هذا المجال: «لقد أسمعت لو ناديت حيّا ولكن لا حياة لمن تنادي» وذلك على اعتبار أنه منذ اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين والإسرائيليون يتحولون نحو المزيد من التشدد واليمينية، وعلى اعتبار أن حكومة يرأسها بنيامين نتنياهو ومشكّلة من هذه الأحزاب التي تقدح عيون قادتها شررا لا يمكن أن تعطي للسلام أي فرصة وبالتالي فإن التوجه إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية لن يكون إلا كالنفخ في قربة مثقوبة ومضيعة للوقت ومراهنة على حصان كسيح وخاسر!!

لكن ومع إدراك أن في هذا الكلام الكثير من الصحة فإنه لا بد من التعاطي مع هذه الجبهة ما دام أنه لا بديل ممكنا عن عملية السلام وما دام العرب ما زالوا يتمسكون بهذه العملية ويراهنون عليها استنادا إلى مبادرتهم السلمية، وأيضا ما دام الموقف الأميركي الذي تميَّز بجدية ملموسة هذه المرة قد أنعش ما يمكن اعتباره حركة السلام الإسرائيلية وأدى إلى ارتفاع أصوات لها وزنها في المجتمع الإسرائيلي تطالب بفرِِْط هذه الحكومة اليمينية المتطرفة إن هي لن تعطي للأميركيين الفرصة التي يريدونها لترتيب أوضاع هذه المنطقة على نحو يخدم مصالحهم الاستراتيجية.

لا يجوز أن يتقوقع العرب على أنفسهم ويواصلوا التخندق في خنادقهم القديمة خشية من أصحاب الأصوات المرتفعة والأفعال القليلة بينما العالم كله يضغط لإنهاء هذا الصراع وفقا لحل إقليمي شامل يضمن انسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية ويضمن أيضا قيام الدولة الفلسطينية المنشودة، ولذلك فإن المطلوب ليس الاستمرار بإصدار بيانات الجامعة العربية المملة وإنما بالتحرك في كافة الاتجاهات لإشعار المجتمع الدولي بجدية الموقف العربي ولإفهام الأميركيين قبل الإسرائيليين أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم في هذه المعركة السياسية المصيرية.

كان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يعرف عندما وجَّه رسالته هذه إلى الداخل الإسرائيلي يوم السبت الماضي أنه ليس من السهل إعادة الحالة الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل اغتيال إسحق رابين، لكنه مع ذلك تقصَّد أن يوجه هذه الرسالة قبل أربعة أيام من إطلاق المفاوضات المباشرة ليُفهم الإسرائيليين أولا أنهم أصبحوا على مفترق طرق، فإما خيار السلام والمستقبل الواعد والأمن المضمون لهم ولدولتهم وأجيالهم المقبلة، وإما العواصف السياسية والعنف والمزيد من إراقة الدماء وليُفهم الأميركيين ثانيا أن استمرار صراع الشرق الأوسط يشكل أكبر تحدٍّ لمصالحهم في هذه المنطقة الاستراتيجية والحساسة.