عبثية السلاح والعودة إلى البداية

TT

ما جرى في بعض أحياء بيروت وشوارعها قبل أيام، وإن اختلفت أسماء الميليشيات والمسلحين المشاركين فيه، لا يختلف عما كان يجري في السبعينات وفي الثمانينات من القرن الماضي. وقد كان الفلسطينيون هم الذين بدأوا باقتناء السلاح داخل المخيمات، وبحجتين: مقاتلة العدو الإسرائيلي الذي كان قد بدأ بالإغارة على تلك المخيمات بعد كل عملية للمقاومة على الحدود. والحجة الثانية حماية أنفسهم ومخيماتهم من مظالم الجيش وقوات الأمن الداخلي اللبنانية. وعندما بدأ حزب الكتائب في المناطق المسيحية يتسلح لدعم الجيش في مواجهة الفلسطينيين، كان الفلسطينيون قد أنشأوا قيادة موحدة، وشكلوا ميليشيات حليفة بين المسلمين، لكي لا يتدخلوا مباشرة في كل نزاع إلا عند الضرورة التي صارت حاضرة في كل يوم بعد عام 1975. وخرج الفلسطينيون من المعادلة اللبنانية بعد الغزو الإسرائيلي عام 1982، لكن الميليشيات الحليفة لم تخرج بالطبع باعتبارها لبنانية وجزءا من الحركة الوطنية، التي حاولت الحلول محل الفلسطينيين والسوريين الذين أخرجوا من بيروت. وبالفعل، وفي 6 مايو (أيار) عام 1984 دخلت ميليشيات حركة أمل والحزب التقدمي (جنبلاط) تدعمها بعض ألوية الجيش اللبناني التي عادت للتمرد على قيادتها، وكانت حجتها هذه المرة ليس المشاركة في النضال لتحرير فلسطين، ولا حتى مواجهة قوى الانعزال المسيحي؛ بل معارضة حكم الرئيس أمين الجميل الذي كان يريد عقد اتفاق مع إسرائيل (17 مايو/ أيار 1983)، سبق لمجلس النواب اللبناني أن وافق عليه بأكثرية كبيرة. لكن في ما بين عامي 1984 و1988، وعلى وقع إعلانات النضال، وتراجع الرئيس أمين الجميل عن الاتفاق، انتشرت الفوضى المسلحة في سائر الأنحاء، خاصة في بيروت، التي كانت تنشب في جنباتها يوميا صراعات دموية بين أطراف «الحلف المعمد بالدم»، كما كانوا يقولون، يذهب ضحيتها العشرات من المواطنين، وتدمر أجزاء أخرى من المدينة المنكوبة منذ الدخول الإسرائيلي إليها عام 1982. وما إن هدأ الأمر بعودة الجيش السوري إلى بيروت بين قوات جنبلاط وبري (وهما حليفان من جديد الآن، فيا ويلتا!)، حتى نشب صراع دموي في بيروت والجنوب بين مسلحي أمل وحزب الله، استمر لأكثر من عام، وذهب ضحيته مئات القتلى، وكان موضوعه أو موضوعاته عدة أمور: لمن المرجعية في القرار الشيعي، وعلاقة الحزب (الإيراني الخالص حتى ذلك الوقت) بإيران وسورية. وما انتهى التوتر بين الطرفين حتى اليوم، لكن الغلبة استتبت لحزب الله، بعد استقرار العلاقة بين سورية وإيران، والاتفاق على تقسيم المسؤوليات بين الطرفين؛ فالحزب لمقاتلة إسرائيل، وحركة أمل لصون حصة الشيعة في النظام اللبناني.

وعلى الرغم من الحديث عن نزع سلاح الميليشيات بعد اتفاق الطائف 1989/1990؛ فإن حزب الله لم ينزع سلاحه طبعا حتى في ضواحي بيروت باعتباره مقاومة وليس ميليشيا، كما لم تُنزع أسلحة التنظيمات الموالية لسورية ومنها حركة أمل والحزب السوري القومي والأحباش. وعلى أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، وبروز قضية التحقيق الدولي، ثم المحكمة الدولية، عاد الانقسام السياسي الداخلي، الذي تعاظم بعد حرب عام 2006، وبروز حزب الله نفوذا وسلاحا في المعادلة الداخلية. وعندما عجز الحزب وحلفاء سورية عن إسقاط حكومة الرئيس السنيورة بالانسحاب منها وبإقفال مجلس النواب، وبمحاصرة السراي الحكومي لأكثر من عام ونصف العام، عمد الحزب وحلفاؤه (حركة أمل والحزب السوري القومي) للدخول إلى بيروت بالسلاح (7 مايو 2008) فتغيرت المعادلة الداخلية منذ ذلك الحين لصالحهم، ولا يزال الأمر على هذا النحو على الرغم من فوز قوى «14 آذار» في الانتخابات النيابية عام 2009، وعلى الرغم من الاتفاق في الدوحة بقطر على عدم استخدام السلاح أو توظيفه لمكاسب سياسية بالداخل!

وبين العامين 2006 و2008 تكاثرت الاشتباكات الليلية وأحيانا النهارية بين المسلحين في بيروت بالأحياء المتجاورة أو المختلطة الشيعية والسنية. وكثرت شكاوى الحكومة العلنية من تسريب السلاح من سورية إلى ميليشيات داخلية إضافة لحزب الله. ثم قيل إن الحزب نفسه عمد إلى تسليح قوى حليفة له من التنظيمات السنية ببيروت وطرابلس والبقاع. وفي الاشتباكات الأخيرة بين الحزب والأحباش، تبين أن مسلحي الأحباش هؤلاء يحملون بطاقات المقاومة شرعنة لسلاحهم. وبالطبع؛ فإنه بعد اضطرابات مايو 2008 وما سبقها وما تلاها؛ سارعت ميليشيات قديمة وجديدة وأفراد كثيرون إلى اقتناء السلاح الخفيف والمتوسط توقعا للمزيد من الاضطراب، بناء على ما جرى في الحقب الماضية. فقوى الأمن الداخلي قليلة العدد، وضعيفة التسليح، وممنوع عليها الدخول إلى مناطق كثيرة في ضواحي بيروت وشمال لبنان وجنوبه. والجيش اللبناني يراعي الظروف، ويعتمد التنسيق الدقيق مع الحزب، ليس خوف الاصطدام الذي حصل أحيانا، بل وخوف الانقسام الذي كاد يصل إليه في شرق بيروت وما حازاه من المناطق المسيحية عام 2007، وفي غرب بيروت وما جاوره من المناطق الإسلامية بعد 7 مايو عام 2008.

ماذا يمكن أن يحصل في الشهور المقبلة؟ على أثر اشتباك برج أبو حيدر، وسقوط القتلى وحصول الخراب، دعت كتلة نواب تيار المستقبل إلى إعلان بيروت منزوعة السلاح. وأيدها في ذلك رئيس الحكومة، الذي ترأس لجنة شكلها مجلس الوزراء لأغراض التحقيق في الأحداث، وضبط السلاح والمسلحين. وما قال الحزب شيئا رسميا بشأن الدعوة لنزع السلاح بالداخل البيروتي، لكن أنصاره ذهبوا إلى أن المقاومة ينبغي أن تحتفظ بسلاحها في سائر أنحاء لبنان، وأن أطرافا من «14 آذار» انتهزت الفرصة لمحاولة سحب سلاح المقاومة! وقد اكتفى رسميو الحزب بالموافقة على التحقيق القضائي والأمني في الأحداث الأخيرة.

إن الواقع الآن هو أن هناك أربعة اعتبارات: أن حزب الله بعد عام 2006 اعتمد استراتيجية السيطرة بالقوة على القرار الداخلي بحجة حماية سلاحه ومقاومته، وأن الجيش اللبناني ومنذ عام 1972 لا يستطيع التدخل في النزاعات المسلحة بالداخل إلا بالتوافق أو الإجماع فلا ينتظر منه شيء الآن، وأن «الدور» السوري يحاول العودة إلى لبنان، لكن الصيغة أو الصيغ لم تتحدد بعد، وأن المنطقة تهتز الآن على وقع العودة للمفاوضات (بين الإسرائيليين والفلسطينيين من دون السوريين!)، وربما بين الأميركيين والإيرانيين، وربما فكر طرف أو أكثر في العودة إلى استغلال الساحة اللبنانية.

ولذا، فالمرجح أن لا يحدث شيء جاد على مستوى ضبط الأمن بالداخل اللبناني. وستخمد الجدالات بشأن أمن بيروت على وقع حدث جديد ربما يأتي من الشمال أو الجنوب. أما أمن المواطنين، فما كان له، ولا مرة، الاعتبار الأول في تاريخ لبنان؛ الحديث أو القديم!