سور شنغهاي العظيم

TT

تصنيف شنغهاي لمن لا يعرفه هو تصنيف وضعته جامعة شنغهاي جياو تونغ الصينية لتقيّم الجامعات الصينية أمام كبرى مؤسسات التعليم العالي العالمية. هذا التصنيف شرح أين تقف الجامعات الصينية من التعليم الأكاديمي المرموق، ولأن المعايير الموضوعة واضحة، ومستوى مراجعة أداء أكثر من ألف جامعة عالمية دقيق وشفاف، سارعت مجلة «إيكونوميست» البريطانية إلى نشر نتائج الفرز السنوي للجامعة الصينية منذ عام 2005، واصفة إياه بأنه «المرجعية الأكثر استخداما لتصنيف الجامعات البحثية حول العالم»، في إشارة إلى جدية التصنيف واعترافا بمتانته.

معايير التقييم ستة، تشمل مستوى الخريجين الأكاديمي من خلال تحقيقهم لنجاحات مميزة في حياتهم العملية بحصولهم على جوائز دولية كـ«نوبل» و«فيلدز»، وهي الجوائز التي يسند إليها المعيار الثاني الذي يهتم بمستوى منسوبي الجامعة، وتسند بقية المعايير إلى مستوى النشر العلمي كمّا ونوعا في تخصصات علمية وإنسانية.

ومع احتفالنا بجامعة الملك سعود التي دخلت تصنيف شنغهاي للعام الثاني على التوالي متصدرة الدول العربية والإسلامية، ومتقدمة عن العام الماضي من مجموعة المائة الرابعة إلى المائة الثالثة لأفضل الجامعات العالمية، وكذلك فرحتنا بزميلتها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي لحقتها إلى التصنيف للمرة الأولى، فإن مرحلة البهجة بدخول التصنيف يفترض أنها انتهت وأصبحت أمرا لا فراق عنه. المرحلة المهمة الآن هي تحقيق تقدم ملموس عاما بعد عام، وأعتقد أن جامعة الملك سعود تعمل بجد للقفز إلى المائة الثانية.

رغم ذلك فإني آسف على وجود دولة عربية وحيدة في هذا التصنيف العالمي، ولا أستطيع أن أعزو هذا الواقع المزعج إلا إلى سوء التخطيط.

من بين 500 جامعة عالمية لا يمثل العرب والمسلمين إلا دولة عربية وحيدة، وثلاث دول إسلامية!

أنا أدعو القارئ الكريم إلى الدخول إلى موقع Academic Ranking of World University ARWU حيث نتائج تصنيف شنغهاي لعام 2010 مفصلة لأفضل 500 جامعة عالمية. هذه النتائج مدعاة للتأمل والتدبر، ويجب أن تمر على العقلاء مرور الثقلاء. فإسرائيل، الدولة الصغيرة والمنبوذة من جيرانها ومن كل دول المنطقة التي تعيش فيها، التي خرجت قبل أربع سنوات من حرب، ولم يتحقق لشعبها، ومنهم الباحثون، الأمن النفسي والجسدي المطلوب منذ قيامها، دخلت تصنيف شنغهاي بسبع جامعات، تتقدمها الجامعة العبرية في القدس في المرتبة الـ72، أي من ضمن أفضل مائة جامعة عالمية، بل ولم تخرج هذه الجامعة من أسرة أفضل المائة منذ نشأة التصنيف عام 2003 وحتى هذا العام، مرورا بعام 2007 الذي أعقب حربها على لبنان.

وإن قال أحدهم إن إسرائيل مثل نبتة العليق، تتسلق على ظهر الولايات المتحدة الأميركية وتعتاش على دعمها الاقتصادي واللوجستي، فإن دولة مثل سنغافورة لا تتمتع بامتياز أميركي، وها هي جامعة سنغافورة الوطنية تحتل الكرسي الـ109 في تصنيف شنغهاي. كما أنني أستطيع أن أسمي دولة عربية نفطية غنية بعيدة عن خطوط التماس مع أي تهديد، مستقرة أمنيا واجتماعيا، ولكنها تنفق أموالها «دية» لأهالي ضحايا سياساتها أو لتحويل تضاريسها الصحراوية إلى جنات. إضافة إلى أن دولا عربية إسلامية عدة اضطرت إلى الإنفاق العسكري لحفظ أمنها من دولة إسلامية مجاورة يفترض أنها صديقة، وهذه الدولة الجارة التي تسمى إيران دخلت تصنيف شنغهاي هذا العام بجامعة وحيدة رغم الإمكانيات الهائلة للاقتصاد الإيراني ورغم علاقاتها العلمية المتينة بدول صناعية كبرى كالصين وروسيا، ولكنها شغلت نفسها بأحلام العصافير، وشغلت المنطقة بالتوجس.

الحقيقة أن المفتاح السحري ليس في الإنفاق المادي فقط، صحيح أن البحث العلمي الذي يرتكز عليه تصنيف شنغهاي يعتمد بشكل كبير على الدعم المالي، إلا أن المال وحده لا يبني دولة حديثة، ولا يقوي بنيتها العلمية أو الثقافية. إن بناء قاعدة علمية قوية يتطلب صنع خلطة متجانسة من عوامل عدة، على رأسها التخطيط. البوابة الرئيسية لسور شنغهاي العظيم هو التخطيط الجيد، ولو يستعرض قارئ التاريخ أو من عايشه أحداث القرن الماضي من عمر المنطقة العربية لآمن بأن سوء التخطيط هو المطب الذي تقع فيه الدول العربية في كل عقد منه، والأسوأ من الوقوع أنها لا تكترث ولا تتعلم الدرس ولا تفكر أن تعيد النظر في خطة سيرها. وأراهن أنه لو وُجد تصنيف عالمي يقيس عدد قصائد التمجيد والكفاح والتباكي على الماضي الجميل لتصدرته معظم الدول العربية.

تأملوا في تصنيف شنغهاي 2010 بعقول مدركة ومتطلعة، تأملوا كيف حافظت جامعة هارفارد على الترتيب الأول محققة كامل المعايير منذ عام 2003 وحتى 2010، وكيف حصلت جامعات الولايات المتحدة على أكثر من نصف مقاعد الجامعات المائة الأول على مستوى العالم. ففي ذلك فليتنافس المتنافسون.

* أكاديمية سعودية

- جامعة الملك سعود