أعيش في مملكة لوكسمبورغ!

TT

مجلة «نيوزويك» سألت قراءها لو ولد أحدهم اليوم فأين يحب أن يعيش.. وأمامه مائة دولة تهتم بالتعليم والصحة العامة والعلم وفرص النجاح الاقتصادي. ورأت المجلة أن الدولة رقم 1 هي فنلندا، والدولة رقم مائة هي بوركينا فاسو، وأن اليمن رقم 92، ومصر رقم 74، وإسرائيل رقم 21، والولايات المتحدة رقم 11.

وأوجه هذا السؤال إلى نفسي، وقد رأيت معظم هذه الدول.. وأنا أختار مملكة لوكسمبورغ، فمساحتها صغيرة أكثر من ألفي كيلومتر، وسكانها أقل من نصف مليون. وقد رأيناها ليلا وغادرناها ليلا، فأخفت عني جمالها الطاغي، ونظافتها وأناقتها وحرصها على التقدم. وهذه المملكة الصغيرة تقع في وسط أوروبا على حدود ألمانيا وفرنسا. وهي تتكلم الألمانية والفرنسية.

أما الهدوء النظيف أو الهدوء النقي فمن عند الله.. فالمملكة صغيرة محندقة، وشوارعها تلمع، وبيوتها بيضاء وناصعة، والجبال والغابات في كل مكان.

أما أين أقيم؟.. ففي الريف الأكثر هدوءا. أين؟.. في أي مكان.. وفي بانسيون.. فأنا لا أستطيع أن أقيم وحدي.. فأنا في حاجة إلى أن أمد يدي فأجد طعامي وشرابي وأدواتي وكتبي. فإذا جاءت عصفورة ووقفت على النافذة فهي لا تلعب وإنما هي تستأذن لأن تقول شيئا. وتعطي لنفسها الإذن وتفرد لحظات لتترك مكانها لواحدة أخرى. وهذا أسلوب المملكة في تحية الضيوف، وذلك بأن تبعث بطيورها لتقدم واجب الحفاوة.. وتكتفي بذلك.

وقد جربت هذه العزلة الصافية في الشمال في ألمانيا. لقد أقمت في كوخ صغير على حافة الغابة السوداء، وكان الطعام يكفيني يومين.. ومنذ ذلك الحين لم أعد أعرف معنى للهدوء، لا الصافي ولا النقي، وإنما الهدوء الملوث لونا وصوتا. فنحن نعيش في ورش أو في مقابر مدوية.. أو لا نعرف أين وكيف نعيش. إنها بيئة اعتدنا عليها. وفي اللهجة العامية المصرية يوصف الإنسان القذر بأنه بيئة. فلم نعرف إلا هذه البيئة. أما البيئة في لوكسمبورغ فهي أعلى مراتب الصمت، لأن الطبيعة هي الأخرى تتأمل.. تتأملنا كما نتأملها، لكنها لا تبوح. أما أنا فقد جئت لأعيش في هدوء لكي أبوح بكل ذلك.. إنني لا أحفظ للجمال سرا!