الفتوى والحسبة بين النظر الفردي والرأي الجماعي

TT

نود أن نرجع اليوم إلى سؤال لم نتمكن من إشباع القول فيه في الحلقة الماضية: هل يحق لمن كان مسؤولا، في المقام الأعلى عن شؤون المسلمين في الدولة أن يلتزم الصمت والحياد في الفتوى وإصدارها، إذ تتصل بالشأن العام؟

الحق أن هذا السؤال يستدعي، بطبيعته، سؤالا آخر نصوغه كما يلي: هل يجوز للدولة اليوم، في بلاد الإسلام، أن تكون شريكا في أمر يختص به العلماء ويتعلق بحرية الفكر؟

السؤالان، لا شك، أساسيان فهما في وجودنا المعاصر ينقلاننا إلى قضية أكثر شمولية: قضية الدين والعصر، الدين وإمكانه في الحياة الإسلامية المعاصرة. في محاولة الاقتراب من السؤالين، لا الإجابة الشافية عنهما، ندعو إلى وقفة تأملية قصيرة في دلالة الفتوى، من جهة أولى، ووقفة أخرى مثلها في عمل الدولة ومسؤوليتها في الوجود الإسلامي المعاصر من جهة أخرى.

للفتوى مظهران اثنان، أو قل إن لها مستويين اثنين. مظهر أول هو مظهرها التقني، ومستوى أول هو المستوى الفردي الذي تطرح فيه من حيث إنها نظر وإعمال للعقل الفقهي مجردا. ومظهر ثان يرجع إلى اتصالها بوجود الجماعة ووجود البشر بحسب أنهم ذوات اجتماعية وسياسية وفعاليات اقتصادية، أي باعتبارهم يدخلون في روابط وعلاقات تتجاوز الفرد نحو الجماعة.

إذا ما نظرنا في الفتوى من الناحية التقنية فنحن نجد (بعيدا عن تعريفات علماء أصول الفقه وتدقيقاتهم ولغتهم البعيدة عن لغة التخاطب اليومي، لغة عامة الناس) أنها اجتهاد في تقديم جواب شرعي عن قضية جديدة، وبالتالي فالفتوى تعني الإتيان بالحكم الشرعي فيما لم يعلم فيه نص واضح من الكتاب، ولا حديث صحيح، ولم يع، مشتقه أن رسول الإسلام (عليه صلوات الله وسلامه) قد أقر أحد أصحابه على شبيه له، ولم يعلم من علماء الإسلام المتقدمين إجماع على شبيهه. تستدعي الفتوى في المرتبة الرابعة، رتبة الاجتهاد وسلوك سبيل القياس ثم التعليل فالترجيح بعد ذلك. لنقل في عبارة أخرى، ربما كانت أقرب إلى الإدراك في لغتنا المعاصرة: الفتوى إعمال للعقل الفقهي في قضية جديدة، هي إشكال طارئ على جماعة المسلمين لا تسعف فيه كتب الفقه المتداولة بإجابة شرعية. لا يملك المشتغل بالشريعة الإسلامية إلا أن «ينظر» و«يجتهد» (والاجتهاد، عند علماء أصول الفقه، مشتق من بذل الجهد مثل حمل شيء ثقيل). لذلك كانت الفتاوى، من حيث هي أحكام، اجتهادا ونظرا فقهيا تشريعيا، ترتبط دوما بالنوازل (جمع «نازلة»، وهي الأمر الطارئ الذي يحدث في غير توقع).

وأما إذا نظرنا في الفتوى من حيث إنها الحكم الشرعي الذي يصدر في الأمور التي تتعلق بالمعاملات، إذ الشأن في العبادات قليل (وإن كان علماء الإسلام لا يزالون يتخبطون في أحكام الرؤية والأهلة في زمن المراقبة الفلكية المتطورة) فنحن نجد أن نتائجها تتجاوز المستوى التقني وتعلو على الشأن الفردي لتتصل بشؤون الجماعة ولتدخل، من ثم، عالم الشأن العام وتتعلق بمجال ما نقول عنه اليوم إنه تدبير الشأن الديني. يمكن القول، في عبارة أخرى، إنها ترجع إلى الحياة العملية للأمة (الحياة المالية، والتجارية، والاجتماعية، بل والسياسية أيضا). كذلك يغدو للفتوى مظهر آخر، لا بل إنها تكتسب بعدا جديدا ربما لم يكن المضمون فيه أنه سيصبح كذلك. الفتوى، إذ تغدو ذات صلة مباشرة بتدبير الشأن العام فهي تلامس، بالضرورة، مجال السلطة السياسية العليا وتطرح الأسئلة المحرجة التي تتعلق بطبيعة المسؤولية فيها، وهذا من جانب، مثلما أنها تثير المسألة الشائكة التي تتصل بحدود تلك السلطة وما ليس يكون لها. نحن، من ثم، نرجع إلى السؤال الذي كان مستهلا لحديثنا اليوم: هل يحق لمن كان في مقام المسؤولية العليا عن شؤون المسلمين في الدولة أن يلتزم جانب الصمت والحياد تجاه الفتاوى التي تتصل بالشأن العام؟ كما أننا، بموجب ذلك، نجابه بالاعتراض (أو السؤال المغاير) المتعلق بحرية الرأي ومسؤوليات العلماء في الفتوى وحقهم في ممارسة الاجتهاد بعيدا عن السلطة السياسية، بل وبعيدا عن كل رقيب إلا أن يكون الرقيب الديني وحده.

الرأي عندنا أن في الإمكان معالجة كل من السؤال والاعتراض عليه بالنظر في الفتوى من حيث إنها تملك أن تكون نظرا فرديا من شخص تتوافر له شروط الأهلية الشرعية كاملة ويرفعه حظه من العلم إلى مستوى الإفتاء، مثلما أن الفتوى تكون ثمرة اجتهاد جماعي تتلاحق فيه الاجتهادات الفردية. غير أنه ليس من شأننا في هذا الحديث أن نخوض في شأن الرأي الفردي، في مقابل الاجتهاد الجماعي وأهميته في حياتنا المعاصرة، فذاك قول يستوجب إفراده بحديث، بل ربما استدعى الحديث حديثا غيره، وإنما نحن نتجاوز ذلك فنقول على سبيل الإيجاز - إن الاجتهاد الجماعي يقتضي، ضرورة، وجود هيئة قارة أو هيئة ينتظم شملها كلما استوجب الحال ذلك.

كما أن الاجتهاد الجماعي يجعلنا، وجها لوجه، أمام مسؤولية الدولة بحسب أنها الراعي الأعظم للشأن العام، والتدبير الديني بعض منه، واعتبارا لأجهزة الدولة أدوات ووسائل لتصريف الشأن العام وتنظيمه وحراسته، وكذا السهر على تحقيق مقتضياته في الوجود الفعلي للمواطنين. الحق أن السؤال يقبل أن يطرح بكيفية أخرى: كيف يكون للدولة أن تكون حارسا للشأن العام وضامنا لتصريف الأمور التي تتصل به وأن تكون، في الوقت ذاته، كفيلا لممارسة الحرية في الحدود التي يقرها القانون؟

قلنا، في الفقرة أعلاه، إن الاجتهاد الجماعي يقتضي وجود هيئة قد تكون قارة وقد تكون هيئة ينتظم شملها كلما استوجب الأمر ذلك. ربما كانت الهيئة القارة هي مجلس العلماء أو ما في معنى ذلك (فالمسألة تختلف باختلاف التصور والتنظيم بين بلد وآخر)، والأمر في الأحوال كلها يخضع لقوانين دقيقة، بل ربما كانت شديدة الصرامة. أما الأمر في هيئة العلماء القارة فواضح لا يستوجب كبير تفصيل، وأما الشأن في غيرها فهو أقل وضوحا وهو، على وجه الخصوص، أكثر مدعاة للاعتراض عليه ممن ألفوا الجمود على التقليد.

الاجتهاد الجماعي على الحقيقة، أي على النحو الذي تقتضيه الحياة المعاصرة يستوجب إحضار علماء وخبراء من أهل الملة ممن ينتسبون إلى العلوم والمعارف التي تقع خارج دائرة العلوم الشرعية فيكون لكل نظر، من جهة الاختصاص التي ينتمي إليها، في «النازلة» التجارية أو المالية، نظر تدعمه الشواهد والأدلة وتوجهه المصلحة التي يقرن علماء الشرع شرع الله بها. المصلحة التي تنظر إلى المسلم من حيث انتمائه لعصر هو العصر الذي نحيا فيه بكل ممكناته وضوابطه وحتمياته. هيئة يجلسون فيها جنبا إلى جنب مع علماء الشريعة.

على أي نحو يلزم أن يكون شأن هذه الهيئة وكيف عملها، وما القول في الأحكام التي ينتهي إليها اجتهادها الجماعي؟ أسئلة مما لا يكون القطع فيها بقول جازم وإن كانت إثارتها من مقتضيات الوجود العيني للمسلم في عالم اليوم.

* كاتب مغربي