مأساة باكستان تطرح سؤالا: هندسة العمل الخيري أم وأده؟

TT

في باكستان مأساة إنسانية كاملة: في حجمها ونوعها وضغطها وكثافة ضحاياها وآثارها المدمرة: النفسية والاجتماعية والصحية والتعليمية والأمنية والسياسية: الحاضرة والمستقبلة. فهناك عشرات الملايين من الباكستانيين اجتالتهم الفيضانات فأصبحوا بلا مأوى، ولا طعام، ولا تعليم، ولا صحة، ولا أمن، لا شيء.. لا شيء من المقومات الضرورية للحياة العادية.

واقترنت هذه المأساة المرعبة بكثرة الأسئلة عن غياب «العمل الخيري الإنساني» الذي كان يمكن أن يسهم في دفع هذا الكرب الشديد، أو يخفف من وطأة قسوته.

نعم إن بلدا عرف بالهمة في نجدة المنكوبين وإغاثة الملهوفين، وهو المملكة العربية السعودية، قد نهض بواجبه نهوضا ناجزا كريما. نهض بهذا الواجب بمد جسر جوي لنقل الإغاثة العاجلة إلى المنكوبين. ونهض بهذا الواجب من خلال حملة التبرعات العامة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وابتدرها هو نفسه بتبرع سخي، وهي حملة تفاعل وتجاوب معها الشعب السعودي المشهود له دوما بالمسارعة إلى فعل الخير.

بيد أن الأسئلة لا تزال تتبدى: أين دور مؤسسات العمل الخيري الطوعية؟ ولماذا هذا الغياب عن مأساة كان يتوجب أن يتضاعف فيها حضوره؟

والجواب عن هذه الأسئلة ينبغي أن يكون صريحا وأمينا.

إن سبب غياب العمل الخيري الإنساني التطوعي إنما هو سبب مركب.

1) هناك مسلمون أغبياء أو حزبيون أو مسيسون فتحوا «ذرائع الشر» في طريق العمل الخيري: بربطه‎ - في هذه الصورة أو تلك - بأعمال إرهابية مولت من جيوب المحسنين الطيبين دون علم ولا تفويض من هؤلاء الطيبين!

ولما كان الإرهاب قد أمسى قضية القضايا (بالمعيار الأمني والسياسي والمالي)‎، ولا سيما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإن العمل الخيري سحق تحت وطأة جيوش مكافحة الإرهاب.. والمتسبب في ذلك - بلا شك‎ - هم الذين ربطوا العمل الخيري بفعل شرير وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.. وهذا نوع من «الصد عن سبيل الله»: صد عن سبيل الله يفرح به المتربصون - أبدا - بالعمل الخيري عند المسلمين، أولئك الذين يختلقون التهم اختلاقا، فكيف إذا وجدوا من المسلمين من يقدم لهم القرائن والحيثيات؟.. وهنا نجهر فنقول: من الخطيئة الجسيمة الدفاع عن هؤلاء الذين يختانون أنفسهم «ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم».. ثم هو صد عن سبيل الله بالتسبب في حرمان المحتاجين والمكروبين من العطاء الخيري. وهو حرمان تجسد بصورته الكالحة في مأساة باكستان الراهنة.. وويل لأقوام يتسببون في حرمان الفقراء والمساكين واليتامى والمشردين مما هم في أشد الحاجة إليه.

إن دوائر معادية‎ - معروفة - استغلت الأحداث الإرهابية لمطاردة العمل الخيري الذي يقوم به المسلمون.. وهؤلاء القوم وجدوا في سلوك بعض المسلمين ما حقق أهدافهم، وهو ما يمكن تسميته «العمالة بالأهداف»، أي أن هؤلاء المسلمين الأغبياء (وهذا أخف وصف) إنما هم عملاء من حيث خدمتهم لأهداف قوم متربصين بالعمل الخيري الذي تجود به الشعوب المسلمة.

2) هناك ماكرون استغلوا هذه السذاجة الماحقة فنظموا حملات واسعة النطاق، خلاصتها أن العمل الخيري (الإسلامي) = دعما وتمويلا للإرهاب.. هكذا بإطلاق!

وبلا أدنى استثناء.. ولقد أصدر هؤلاء تقارير تدعي العلاقة بين جمعيات العمل الخيري (كلها)، وبين المنظمات الإرهابية، وفي مقدمتها «القاعدة».. ومن ذلك: تقرير أميركي صدر عام 2002.. لكن الإنصاف الأخلاقي يقتضي القول: إن أميركيين شرفاء أمناء فندوا هذا التقرير أيما تفنيد. فقد قال روبرت نيكولز نائب مساعد وزير الخزانة الأميركي للشؤون العامة - يومئذ: «إن التقرير معيب بصورة كبيرة».. وقال جريج سوليفان - المتحدث باسم مكتب الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية آنذاك: «إن وزارة الخارجية لا تجد في تقرير مجلس العلاقات الخارجية شيئا جديدا فيما يتعلق بالأعمال الخيرية، بل ليس فيه ما يتطابق مع الواقع، وفي أحسن الأحوال هو تقرير سطحي. ويخلو من أي مادة حقيقية، وإني أشعر بالإحباط الشديد من المتطرفين في وسائل الإعلام الأميركية الذين يفسرون تصرف الحكومات على الوجه الأسوأ».. وقال ريتشارد ميرفي (الدبلوماسي الأميركي المرموق): «لقد أصبت بالدهشة عند سماع هذا التقرير، فالمعلومات الموجودة فيه لا ترقى إلى مستوى الدقة، ولا أعرف ما هو الأساس الذي بنى عليه التقرير استنتاجاته.. إن التقرير يعكس المزيد من عجز الولايات المتحدة عن تعقب الأموال الإرهابية».. وعبارة ميرفي الأخيرة تعني: أن مكافحة الأموال الإرهابية قد ضلت طريقها.. ويبدو أن هذا صحيح، بمعنى أن للإرهابيين مصادر تمويل أخرى واسعة غير العمل الخيري. وإلا فمن أين تتمول وتتسلح طالبان‎ - في أفغانستان وباكستان‎ - على حين أنه قد جففت ‎- تقريبا - منابع العمل الخيري بالنسبة إليها؟!

وينبغي إعادة النظر في مقولة: إن وأد العمل الخيري كله هو الضمان الأمثل ضد الإرهاب. ذلك أن الحرمان نفسه فرصة واسعة أو «بيئة مثالية» لتجنيد الجياع والساخطين في شبكات الإرهاب.. ومن ذا الذي يستطيع أن يؤكد لنا: أن مأساة باكستان الراهنة لن تكون فرصة واسعة ينشط فيها المحرضون والمعبئون لأجل تجنيد ألوف الشباب الباكستاني المحروم المفجوع - في نفسه وأهله ‎- في شبكات العنف والغلو والإرهاب؟

إن الحل الصحيح لمشكلة العمل الخيري هو «هندسته» لا مصادرته.. ومن أولويات الهندسة المطلوبة: حمايته من الغفلة والاستغفال والالتواء والاستغلال، ونقاهته - كذلك - من آفات الحزبية والسرية والقبض في الظلام والصرف في الظلام. فالعمل الخيري ليس «خطة انقلاب» تتم في السر، بل هو عمل يتوخى إغاثة المحتاجين، وهو عمل لا بد أن يجري في النور.. وإذا كانت السياسة تعتمد على «الكتمان» في الغالب، فإن العمل الخيري عماده «العلانية» بإطلاق.. وتقتضي العلانية: الشفافية التامة في أسماء وتواريخ وسير ملفات القائمين عليه.. وأن تكون ميزانيته معلنة في وسائل الإعلام: ميزانية التحصيل والإيرادات وميزانية الصرف والإنفاق. وأن تخضع هذه الميزانية إلى قوانين المراجعة والتدقيق من قبل الجهات المختصة المعتمدة.. وأن يحضر مناقشة الميزانية ممثلون للحكومات ولهيئات الإغاثة الدولية، كما تحضرها وسائل الإعلام. وقبل ذلك وبعده، لا بد من تعريف العمل الخيري، وضبط مفهومه: سدا لأبواب الفوضى، والتأويلات الفاسدة والمغرضة والمائعة.. ومن صور الهندسة‎ - كذلك - جعل العمل الخيري «إنسانيا»، فالعبرة بالبواعث والمقاصد لا بالعناوين. فجوهر التوحيد هو: عبادة الله والإحسان إلى خلقه - جميع خلقه. ونحن نضم صوتنا إلى صوت الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني وزير الداخلية السعودي، إذ دعا وسائل الإعلام كافة إلى نقل صورة مأساة باكستان الراهنة إلى الضمير الإسلامي والإنساني لكي ينهض بمسؤوليته تجاه المنكوبين هناك.