تفكير بعد المشاهدة

TT

بين كل فترة وأخرى يخرج عمل تلفزيوني يثير الجدل ويفتح أبواب النقاش في مسائل شتى على مصراعيه، فيلهم المؤيد ويستفز المعترض. وهذا العام هناك عملان في التلفزيون فيهما مادة دسمة وغزيرة من الجدل واللغط تستحق الوقوف والتأمل.

المسلسل الأول عن الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي، ويواجه المسلسل سلسلة من النقد بحقه تشمل كثيرا من السقطات، ولعل أهمها وأبرزها هو تضخيم وإعادة دور القبيلة والتفاخر بالأنساب بشكل جاهلي، وهي المسألة التي جاء الإسلام ليحذر منها ويعتبر أن معيار التفوق الوحيد هو تقوى الخالق عز وجل. وكذلك كان هناك دس في النصوص بشكل غريب على لسان الأبطال مثل سيدنا علي بن أبي طالب والحسن البصري «فقالا» نصوصا يبدو جليا أنها وظفت لخدمة «المقصد» من المسلسل بغض النظر إذا كان النص قد صدر «حقا وفعلا» على لسان الشخصية نفسها. كذلك هناك كثير من الإسقاطات العصرية والأحداث الحالية ببعد تاريخي على لسان أبطال المسلسل وفي هذا توظيف سياسي وموجه للعمل لا يجعله نقلا وسردا أمينا وموضوعيا للتاريخ.

أما العمل الثاني الذي يثير جدلا كبيرا ولغطا غير بسيط فهو مسلسل «الجماعة» الذي يحكي بشكل مبهر وجميل تاريخ تأسيس حركة الإخوان المسلمين وأسباب ذلك وفكرها ومبادئها مستخدما تقنية سينمائية عالية المستوى وإخراجا راقيا بكل المقاييس. ويظهر المسلسل بشكل مقنع أن فكر الجماعة هو امتداد لفكر متشدد موجود ولكن تطور ليصبح أكثر تنظيما وتخطيطا وبخطاب أكثر ملاءمة للعصر. وبما أن هذا الفكر وجه في الأساس «لاستنهاض» شباب الأمة فقد اعتمد على اختراق قطاع التعليم بأكمله ليكون هو المفرخة المؤهلة لجيل المستقبل من شباب الإخوان بعد أن تمت أدلجتهم وتطويعهم.

وحركة الإخوان مبنية على افتراضية بسيطة مفادها أن الإنسان قادر على «تغيير» المسار والناس والعالم بأيديه، وهذا لعمري تعدّ كبير على قدرة ومشيئة الخالق عز وجل. فهم دأبوا على تفسير الآية الكريمة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا بما بأنفسهم) بأنها رخصة مفتوحة للتغيير، أيا كان شكل هذا التغيير، سواء كان بالسلام أو القتل أو المكيدة أو العنف أو السرية. ويتناسون الآية الكريمة الأخرى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إن الله سميع عليم).

الخطاب الإخواني، الخط المتشدد، يتبنى الخطاب الهلاكي ويركز على أن الأمة ضالة وجاهلة وهالكة ولا نجاة لها إلا باتباع خطهم وطريقهم وأسلوبهم. ورفعوا طبعا شعارا جذابا ومغريا هو «الإسلام هو الحل»، وأخطأوا في ذلك لأن الإيمان هو الحل والإيمان مرتبة أعلى درجة وأرقى في الفهم والتسليم والتأدب والتطبيق مع الحق عز وجل وهو عدم «ادعاء» مقدرة للتغيير توازي أو تفوق مقدرة الخالق عز وجل نفسه.

وهذا الانغماس في هذا الفكر هو الذي يفسر كم البرامج التلفزيونية التي يطلق عليها اسم البرامج الدينية التي تبيع بضاعة التغيير بشكل عجيب، حتى وصلت إلى درجة اخترقت مقرئي القرآن الكريم أنفسهم وفي الليالي الروحانية الرمضانية، فتجد أن بعضهم يدخل هواه ونفسه في قراءته للقرآن خلال إمامته للمصلين؛ فيركز ويرفع صوته في آيات «محددة» ويضغط وبقوة على مخارج الحروف، وكأن الناس خلفه مضطرون إلى أن يستمعوا لقراءته بأسلوب «الهايلايتس»! ولكنه التسييس والتشدد والنفس والهوى لدى من اقتحموا الخطاب الديني وأنهكوه وشوهوه.

حركة الإخوان المسلمين فتنة كبرى وابتلاء عظيم تسبب في خلل في كثير من المفاهيم التي يروج لها في اجتماعات سرية وخلايا مجهولة وغامضة ولكنها بالأساس شيدت على منصة الفكر المتشدد الذي حصر نفسه في قراءات محددة وبأسماء محددة لفهم الدين وروح الشريعة.

«الجماعة» و«القعقاع» عملان دراميان مهمان عرضا في رمضان هذا العام (ويمكن أن يضاف إليهما مسلسل «ما ملكت أيمانكم» الذي يعالج التطرف والانفلات والتشدد والخلاعة في المجتمع من منظور ديني واجتماعي) لم يفلتا من النقد والانتقاد، ولكنهما أضافا مادة دسمة تستحق التحية، وبالتالي من الممكن البناء عليهما مستقبلا لتبيان مكان الخطر في الخطاب المتطرف اليوم.

[email protected]