حرب الصور في مصر

TT

تدور في مصر هذه الأيام حرب الصور والملصقات، صور لمرشحين (إذا ما قرر الرئيس عدم الترشح) للانتخابات الرئاسية 2011، وصور لإحدى بنات الدكتور محمد البرادعي كجزء من حملة التشويش على الرجل وأسرته، هذا إضافة إلى آلاف الصور المعلقة على الجدران لمرشحي مجلس الشعب عن الحزب الوطني والمنشقين عن الحزب ولكنهم «وطني» أيضا، شيء يذكر بأغنية عبد الحليم «صورة، صورة، كلنا عايزين صورة». هذا عن «الفيجوال» أو عالم الصور، أما عن «الساوند» أو الكلام، فهناك كلام كثير على التوك شو وفي الجرائد اليومية، وعلى موائد الإفطار في بيت فلان أو علان الأرستقراطي الجديد من «بتوع» موائد الرحمن أو موائد الصفوة، والكلام كله أيضا عن الصور ذاتها. المشهد مثير ويستحق التعليق لدلالاته عما حدث للمصريين وكيف انزلقوا إلى ما سميته في مقال سابق «عالم كاريزما التفاهة».

بداية، الحوار حول رئيس مصر المحتمل، لم يسأل حتى الآن عن مسؤوليات الرئيس القادم، وما هو المطلوب من رئيس مصر في العشر سنوات المقبلة مثلا، أي يجب أن نحدد أولا ماهية وظيفة الرئيس أو ما يعرف بالـ Job Description، فالحوار عن الأشخاص ومن يصلح أو لا يصلح، من دون ذكر لمواصفات الوظيفة هو حوار تائه. وقبل أن نحدد متطلبات الوظيفة لا بد أن نتحدث عن تحديات مصر في المرحلة المقبلة ولو بصورة مبسطة أو حتى كاريكاتورية.

هناك اليوم من يتحدثون عن ضرورة وجود رجل عسكري يحكم مصر من أجل مواجهة التحديات الإقليمية. ولكن لم يسأل هؤلاء أنفسهم عما إذا كان من الوارد أن تدخل مصر حربا في العشر سنوات بل في العشرين سنة المقبلة، الإجابة حسب كل الدلالات والمعطيات الراهنة ستكون بالنفي، فليس من المتوقع استراتيجيا أن تدخل مصر أي نوع من الحروب في الخمسين سنة المقبلة، اللهم إلا مع نفسها. لذا تكون فكرة ضرورة وجود جنرال على قمة السلطة ليست ضرورية كما يتصورها جماعة سيناريو الجنرال.

فنظرا لحالة الفوضى الداخلية التي بدأت تتضح ملامحها الآن، مصر لا تحتاج إلى جنرال وإنما تحتاج إلى شرطي مرور، رجل قادر على تنظيم حركة البشر في بحر الفوضى المعروف مجازا بالقاهرة.. شرطي مرور نزيه غير مرتش، قادر على أن يعطي المخالفات الرادعة وقت الضرورة. ونظرا لحالة الفقر التي تسود كثيرا من المناطق المزدحمة بالسكان في أطراف القاهرة والصعيد، مصر لا تحتاج أيضا إلى جنرال، ولكن تحتاج إلى رجل واقف على الناصية ومعه «قدرة فول وجبن وعيش»، أي أن الموضوع موضوع أكل وشرب. ولا بد طبعا لشرطي المرور أو «اللي واقف على الناصية ومعه قدرة الفول»، أن يكون ملما بقضية الشرب المصاحبة لأكل الفول والجبن والعيش، وهذا يتطلب إلماما بقضايا أبعد مثل الجوار الجنوبي لمصر مثلا ومنابع النيل، لأن النيل هو بالنسبة للمصريين «قزازة ميه» ممددة في الوطن يرضع منها المصريون صباح مساء، فلا بد لشرطي المرور هذا أن تكون لديه القدرة على الدفاع عن مستقبل «قزازة المية الكبيرة اللي حيبلّع بيها الجماعة الفول والجبن بالعيش». هنا قد يحتاج إلى جيش وجنرال، ولكن ضرورة الجنرال ليست هي الأصل. وفي تنويعة على فيلم «الحب قبل الخبز أحيانا» الذي وصفه المصريون يومها بـ«كلام ناس شبعانة»، يكون عنوان الفيلم الحالي «الخبز قبل الجنرال»، ليس أحيانا ولكن دائما.

ما أردت قوله من هذا التبسيط الشديد والساخر لحال مصر، أن هناك قضايا ملحة في مصر يجب أن تكون أولى الأولويات في «الجوب ديسكربشن» لوظيفة رئيس مصر، وعلى أساسها يجب اختيار الأقدر على التعامل معها، ومن هنا تكون أهم مواصفات رئيس مصر المقبل هو قدرته على التعامل بنجاح مع قضايا الجوع والأكل والشرب والاكتظاظ السكاني وفرص العمل، قضايا حياتية ملحة تحدد شكل مصر في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين.

الأحاديث في مصر اليوم عن مستقبل مصر تبدو أقرب إلى مسلسلات رمضان، نوع من التسلية وتزجية الوقت ونهايات متوقعة للمسلسل وللبطل، وأحيانا تكون تافهة فتصل حد النميمة عن أشخاص يرشحون أنفسهم للرئاسة أو للمجالس النيابية، نميمة عن أسرهم وعائلاتهم، وعن صورهم على الفيس بوك، وعن صورهم على الجدران، صور في صور، وأحاديث تافهة تغلف نفسها بنوع من الثقافة كأن تشتري كعكة رخيصة زين سطحها بألوان وأشكال مختلفة.

لو أتيحت لك قراءة الصحف المصرية أو شاهدت «التوك شو» المصري، لسمعت كثيرا عن الانتخابات وعن المرشحين، ومع ذلك تخرج بلا شيء، فلا أحد يتحدث في صلب الموضوع، مثل ما الذي نريده من رئيس مصر في العشر سنوات المقبلة، ومن يصلح لهذا المنصب، وهل لديه الأدوات لتنفيذ ما نريده أن ينفذه. العيب الكبير في الحوار الدائر في مصر هو أن المصريين لا يعرفون ماذا يريدون من المرشح للرئاسة ولا حتى من المرشح للمجلس النيابي، هم يريدون «زيطة وزمبليطه وخلاص»، مقدمو ومقدمات برامج بأبهى حللهم يديرون «توك شو» عن مستقبل الحكم في مصر، ومرشح عتيد يتبنى شعار «ما يحكمش»، وهي كلمة من قاموس «العوالم» في شارع محمد علي، فيها غنج وأشياء أخرى أكثر من كونها شعارا ينبئ بحديث جاد عن مستقبل بلد.

وبما أننا أتينا في الحديث عن عالم «العوالم» لا عالم العلم، فإن أحاديث النخبة في مصر اليوم تبدو أقرب إلى بدلة الراقصة الشرقية، وهج ولمعان وبريق، لكن بكل أسف بريق مزيف «فالصو» كيف وصل بعض المصريين إلى هذه الحالة من كاريزما التفاهة؟ وما الذي سيجنيه المصريون من حرب الصور؟ سؤالان لا يمكن أن يجيب عنهما إلا المصريون أنفسهم.