كلام جرائد

TT

المسألة سهلة جدا: إذا أردت أن تشتم كتابا أو أطروحة أو أن تستنقص من قيمة مفكر أو عالم أو سياسي خصم، فما عليك إلا أن تستنجد بالمقولة الشهيرة: كلام جرائد! وهي مقولة تتكرر كثيرا في الفضائيات عندما تحتدم المعارك بين الضيوف ويستعملها الأساتذة في مناقشة أطروحات يُشرف عليها خصومهم في الفكر والمناهج العلمية. إلى حد هذا المستوى يُمكن تجاوز الأمر وهضم مرارته صمتا. ولكن يبدو أن هذه المقولة من المشروعية والاتفاق حولها إلى درجة أنها أصبحت حاضرة بقوة في الأعمال الدرامية وحتى في النقاشات العائلية وفي المقاهي. والمشكل بطبيعة الحال ليس في المقولة ذاتها بل في سياقات استعمالها، حيث إنها تُستعمل للتهميش وللسخرية وللتدليل على عدم الدقة وضعف الجانب العلمي الموضوعي.

من جهة أخرى تكشف هذه المقولة المتداولة عن أزمة ثقة بين وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية البصرية ومجتمعاتها وهي في حد ذاتها أزمة تستحق النظر والتأمل، خصوصا أن أغلب من يُعلق بالقول «كلام جرائد» هو يقصد في الواقع التكذيب ولا شيء سواه. والغريب أيضا أن صاحب التعليق هو نفسه يستقي نصيب الأسد من الأخبار ومعلوماته من الجرائد والقنوات والإذاعات. إننا أمام حالة من الأخذ والشتم والاستفادة والجحود والحاجة والاستعلاء وهي حالة كثيرة التناقضات والتشظي، تستدعي قدرا من الحسم النسبي.

لقد عرف المشهد الإعلامي العربي تطورا لافتا أسهم في بلورته إعلام المهجر والفضائيات والتنافس الحاد بين مختلف وسائل الإعلام العربية اليوم. ورأينا كيف أن الصورة وتقنيات النقل المباشر المتطورة قد رفعت من مصداقية وسائل الإعلام حيث لم يعد ممكنا اليوم التلاعب بحقائق الواقع ومجريات الأحداث والحروب بالشكل الذي كان يتم به في السابق.

أيضا من المؤسف التعلق بمقولة «كلام جرائد» التي تكرس صورة نمطية عن الإعلام العربي، والحال أن هناك من يتأذى من تكريس هذه الصورة بل إن هناك من دفع حياته ثمنا من أجل الإعلام الحر والنزيه والمسؤول. فلا ننسى ونحن نتفوه بعبارة «كلام جرائد» أن ذلك الكلام يكتبه صحافيون وأن فيهم من أصبح بحكم الخبرة والمثابرة والعلاقات والذكاء يشكلون سلطة في حد ذاتهم وأن العمل الإعلامي جهاد متواصل ولهث وراء السبق والخبر اليقين.

هناك معطى آخر جدير بأن يُقلص من رواج مقولة «كلام جرائد» التي يُفهم منها التلاعب بالحقيقة. فالقطاع الخاص قد دخل بقوة منذ سنوات في مجال الإعلام، وقليلة هي البلدان العربية والإسلامية التي لم تعرف نوعا من الانتعاشة الإعلامية. ذلك أن تقلص يد الدولة وتراجع نفوذها يجعل من الإعلام الرسمي جزءا من المشهد وليس كل المشهد الإعلامي.

وبما أن الإعلام الخاص يستند إلى آليات السوق فإنه لا مصلحة له في الكذب والتعتيم وكل مصلحته تكمن في نقل حرارة الواقع والتنافس من أجل السبق مما يعني أن «كلام جرائد» هو كلام عين الواقع.

وبالنسبة إلى الذين ينتمون إلى اختصاصات علمية معينة ويستنقصون من قيمة المقالات ومضمون الصحف، يبدو أنه فاتهم أن الإعلام علم قائم الذات يُدرس في الجامعات وتسند لطلبته شهادات الأستاذية والماجستير والدكتوراه. فالمقال الصحافي فن وعلم يقومان على تقنيات دقيقة تشمل صياغة الخبر والمقال التأليفي ومقال الرأي ومقالة التحليل الإخباري وغير ذلك من الأشكال الصحافية. ولا يختلف المقال الصحافي من حيث الجدية عن مقالات تنتمي إلى حقول علم الاجتماع والنقد الأدبي والفلسفة، إذ لكل علم تقنياته ورموزه وأساليبه ولغته ومعجمه. بل إن الكثير من الحقول المعرفية اليوم تركز في بحوثها على ظواهر نبه إليها الإعلام وجمع عنها المعطيات الأولية كي يقدمها للقارئ. ولا تستطيع البحوث الاجتماعية اليوم التي تتناول ظواهر رصدها الإعلام وذات صلة بالأسرة والشباب والمجتمع والأطفال والبطالة والانحراف أن تدير ظهرها عن «كلام الجرائد» بل هو مصدر من مصادرها ووثيقة من وثائقها.

إذن المسألة سهلة جدا: إذا أردت أن تمتدح كتابا أو أن تثني على قول مفكر أو سياسي فما عليك من هنا فصاعدا إلا أن تقول «كلام جرائد» للتنويه وللتدليل على القيمة.