واجه الصحافة

TT

صدق أو لا تصدق، الصحافة التي عاشت في السعودية منذ نشأتها تواجه الكل، من المواطن البسيط وحتى رجال الأعمال والدين والحكومة، أصبحت تمتلك جبهتها وتدعو الناس إليها ليواجهوها.

تحت عنوان «واجه الصحافة»، يخرج علينا من قناة «العربية» الإعلامي داود الشريان مساء كل يوم جمعة ببرنامج يضم أطرافا مختلفة كلية في توجهها الفكري والثقافي وانتمائها المهني. فكرة البرنامج ليست جديدة، فالقنوات الفضائية مليئة بالعشرات من هذا النمط من البرامج، ولكن ما يميز «واجه الصحافة» أنه يتناول الداخل السعودي، حاملا المواضيع الأكثر حساسية ليضعها على طاولة النقاش. والخلافات الثقافية والفكرية في السعودية ذات شأن كبير، ولها عرابون ومؤيدون وتلامذة ومعارضون، وهي جديرة بتسليط الضوء عليها، كما أن العلاقة بين المواطن ومسؤولي الخدمات العامة شبه مقطوعة تحتاج إلى سلك توصيل.

«واجه الصحافة» آخى بين المتخاصمين، كأنك تتحدث عن نموذج مصغّر للحوار الوطني. ووضع المختلفين في مواجهة مع أفكارهم، وضع السني أمام الشيعي، والتكنوقراط مع الإعلاميين، في مناظرات يديرها رجل مهذب، يعرف أنه رئيس المناظرة وقاضيها، الرجل يعمل في أجواء جميلة ولكنها حساسة، إنها أشبه بالمشي على شاطئ من الجمر.

البرنامج تعرض لمواضيع مهمة وقضايا مفصلية في المجتمع السعودي لم يسبق لأي برنامج أن ناقشها بهذا الشكل الناضج والجريء، فجعل المشاهد يسمع ويرى ما كان يكتب في مساحات متباعدة من الشتات في المواقع الإلكترونية، أو يقال في قنوات فضائية لم تتناولها بطريقة موضوعية كما ينبغي. استضاف البرنامج شخصيات بارزة في التخصص الشرعي في نقاش حول مهام وصلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهة التي كثرت الدعوة حول تعديل نظامها، موضوع غاية في الأهمية والحساسية، ولكن لم ينبغ إلا لبرنامج على درجة عالية من الاحترام والمتانة المهنية. ظهرت في إحدى الحلقات شخصية سعودية أمنية استخباراتية من طراز رفيع، وسفير سابق، وأحد أبرز أبناء الأسرة الحاكمة، الأمير تركي الفيصل، ليواجه أربع شخصيات إعلامية معروفة غمرته بسيل من الأسئلة من نوع: ألا ترى سموكم أن السياسة الخارجية السعودية متراخية مع إيران وأن عليها أن تعيد النظر فيها؟ فيأتي الجواب منسابا بكل أريحية. كما استضاف البرنامج مسؤولين في مواقع مهمة ومرتبطة بالخدمات العامة كالقضاء والصحة والتعليم والمرور ليجيبوا عن أسئلة أخذها داود الشريان من طرف لسان المواطن الذي يشعر بأنه يمثله في هذه المناظرات.

لا شك في أن اهتمام الناس بمتابعة حلقات البرنامج تعكس حاجتهم لسماع صوت المسؤول وفهم أكثر لوجهة النظر الرسمية في مشكلات تواجههم يوميا أو تشعرهم بالقلق على مستقبل أولادهم ومستوى معيشتهم، إضافة إلى حاجة المرحلة لمثل هذا النوع من الانفتاح الذي ظهر في ظل أجواء الإصلاح التي اعتمدتها القيادة السياسية، وأهمها فتح أبواب الحوار والجدال حول المشارب الثقافية المختلفة، التي ينظر إليها كأمر صحي مهما زادت حدة الاختلاف حولها.

وفي اعتقادي أن من أجمل ما يميز برنامج «واجه الصحافة» هو الوضوح والأسلوب المباشر في الطرح. هناك هدف خلف إعداد البرنامج يتمثل في صقل الصورة المشوشة حول القضية المطروحة، وتوضيح كل ما كان يلبس على عامة الناس نتيجة لبعد المسؤولين أو غيابهم عن الصورة العامة، أكثر منه ضيافة مجاملة للظهور الإعلامي كما جرت العادة في استضافة المسؤولين.

«واجه الصحافة» برنامج يشبه قناة «العربية»، لأنه يعكس نضجها ويحمل ملامحها المعتدلة، بلا زعيق ولا تلفيق ولا تحريض ولا إثارة مفتعلة، كما في معظم البرامج الحوارية المعروفة.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]