العرب والإصلاح الديني

TT

ملك البحرين صارح شعبه قبل أيام في كلمة متلفزة بضرورة الإصلاح الديني، وأن هناك خطة شاملة لذلك، بعد كشف السلطات الأمنية عن مخطط تخريبي تقوم عليه شبكة إرهابية تستهدف: «تقويض الوحدة الوطنية والإساءة للنسيج الاجتماعي بكل موروثاته الحضارية، والعمل على ديمومة العنف واستهداف الأبرياء وتخريب الممتلكات العامة والخاصة». بحسب ما أورده تلفزيون البحرين الحكومي.

عاهل البحرين حمد بن عيسى آل خليفة أعلن أنه دعا السلطات الدينية المختصة للتثبت ممن «يصعدون على المنابر»، وطالب بالعمل على «التقريب بين المذاهب، ونبذ العنف، والالتزام بالجماعة».

من المؤكد أن إصلاح «الحقل الديني» في البحرين، مثلا، ليس مربوطا فقط بالكشف عن هذه الشبكة الأصولية الجديدة، فنحن من حين لآخر نتعرف على مخطط ثوري أصولي جديد يستند على الدين في خطابه وتحريضه للمجندين، لا جديد في هذا الأمر، ولا مفاجأة، بل أكاد أقول إنه منذ نحو 1967، لا توجد حركة انقلاب سياسي أو سعي لتقويض نظام حكم قائم في البلاد العربية إلا وهو ينطلق من ثقافة أصولية دينية، ذهب عهد الحركات الثورية القومية أو اليسارية، لاحظوا حتى حركة الانفصال الجنوبي في اليمن، وعلى الرغم من إرث سكان الجنوب المدني والعلماني منذ العهد البريطاني إلى المرحلة الاشتراكية، لاحظوا أن مضمون الاحتجاج الجنوبي اليمني بدأ يتطعم بنكهة أصولية سلفية جهادية، بعد أن دلف إلى المشهد أمثال الجهادي طارق الفضلي وغيرهم. هذا للتمثيل فقط، دون التفصيل في طبيعة وحجم هذا اللون الأصولي في «الحراك» الجنوبي، أو مسببات الغضب الجنوبي الفعلية، هذا حديث آخر حتى لا يتحول النقاش إلى المسألة الجنوبية في اليمن..

المهم هنا أن نؤشر إلى حقيقة ورطة المجتمعات العربية وسلطات الحكم العربية بالمأزق الديني، أو الفهم المتأزم للدين ودوره في الحياة والسياسة.

نحن نعيش حالة ثوران وتهيج عربي في علاقة الدين بالسياسة والمجتمع والحياة بشكل عام، وطبيعة علاقتنا بالعالم الخارجي، قبل 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حتما.

منذ أعلن حسن البنا تحويل الإسلام إلى حزب سياسي وقارع، بالإسلام حسب فهمه هو، بقية الأحزاب السياسية «المسلمة» في مصر، إلى دور الإخوان الفعلي في انقلاب الضباط الأحرار على الملكية المصرية 1952، ويكفي مطالعة حكاية علاقة سيد قطب بالضباط الأحرار، وهذا أيضا حديث آخر، إلى المعركة الرهيبة بين الإخوان وعبد الناصر، ثم سيد قطب، صديق الأمس، وبين عبد الناصر والضباط إلى إعدامه بعد كشف تنظيمه 1966، إلى تنظيم الفنية العسكرية في مصر على يد التحريري الفلسطيني (صالح سرية) إلى مقتل السادات على يد الأصوليين المصريين، هنا أفتح قوسا وأتفق مع الأستاذ علي سالم في مقاله الأخير في هذه الجريدة في أن السبب الفعلي لإقدام الأصوليين المصريين على قتل السادات لم يكن انحياز السادات للسلام وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، بل لكون السادات في نظر الأصوليين «كافرا» يحكم بغير ما أنزل الله، مثله في ذلك مثل عبد الناصر أو مبارك، ربما يكون توقيعه لاتفاقية كامب ديفيد سببا «إضافيا» لتثبيت كفر السادات في نظرهم، لكنه ليس سببا أصليا أو أساسيا في تكفير ومن ثم استحلال دم السادات.

أتت بعد ذلك مرحلة إرهاب الجماعات الأصولية المعسكرة طيلة التسعينات وبدايات الألفية، هذا في مصر، ناهيك عن أزمة بل أزمات اليمن مع الأصولية الإسلامية، منذ اغتيال الإمام يحيى حميد الدين بتدبير من حسن البنا في مصر، عبر الجزائري الإخواني الفضيل الورتلاني من خلال حركة الإمام الزيدي «الدستوري» ابن الوزير، إلى أزمات الشيخ الزنداني حاليا وغيره من الأصوليين مثل «قاعدة اليمن» أو حتى خارج الإطار السلفي، كحركة الحوثيين الزيدية المتطرفة.

ما قلناه عن مصر والبحرين واليمن يجري على كل البلدان الإسلامية والعربية، تقريبا، فكلها بأشكال متعددة لديها أزمات مزعجة مع الحركات الأصولية، وهذه الحركات الأصولية تستند في معاداتها لهذه الدول أو سعيها لفرض أجنداتها على هذه الدول أو الإيقاع فعلا ببعض هذه الدول والحصول على كرسي حكمها (كما حصل في السودان أيام تحالف الترابي والبشير) تستند في كل هذا إلى الدين، الأمر الذي يجعلنا فعلا أمام أزمة الأصولية وفهم الدين وطريقة توظيفه.

ما جرى في البحرين مؤخرا، جرى قبل ذلك في المغرب، حينما أطلقت بعض وسائل الإعلام وصف «إصلاح الحقل الديني» على مجمل ما قام به ملك المغرب الشاب محمد السادس في بلاده، يوليو (تموز) 2009، بخصوص شؤون الفتوى والتشريع والوعظ والإرشاد، وإطلاق مدونة إصلاحية لقضايا الأسرة وكل المؤسسات المتصلة بهذه الشؤون الدينية. حيث كانت جهود ملك المغرب انصبت على «تنظيم» و«ترتيب» الحقل الديني، أكثر مما توحي به عبارة «إصلاح» لدى البعض من دلالات مرعبة ومخيفة تذهب باتجاه التحريف والتمييع والانحراف.

وفي مصر، وحينما تولى شيخ الأزهر الجديد أحمد الطيب مشيخة أهم مركز ديني في مصر، خلفا للشيخ سيد طنطاوي، سعى مباشرة إلى «إصلاح» الأزهر، وإعادة دوره وزخمه، والتأكيد على الطابع المحلي الديني ومكافحة المد «السلفي» كما قال هو، وكما قال من قبل ملك المغرب إنه يسعى إلى تأكيد الطابع المحلي المغربي للفقه المالكي.

نحن أمام «هبة» سياسية عربية لإغلاق ما يُعتقد أنه منافذ التسرب في النسيج الاجتماعي والثقافي، عبر أهم مقوم من مقومات الهوية الجماعية، وهو: الدين، ومن هنا تأتي خطورة الحركات الأصولية، السلمية منها والعنيفة، حيث إنها تخاطب مشاعر عميقة لدى الجمهور، ويمكن لأي شخص يمتلك كثيرا من الجرأة والمغامرة، وربما قليلا من العمق والاطلاع، أن يؤثر في جموع من الناس، خصوصا مع «ابتذال» الإعلام، بعدما تفجرت عشرات القنوات الفضائية، وأضعافها المضاعفة من مواقع الإنترنت، وانحلت قبضة الدولة الشديدة عن عرى الإعلام، وكان لزاما بعد هذا كله، من وجهة نظر السلطات العربية، أن تصدر مثل هذه التوجهات لضبط ما يمكن ضبطه.

والسؤال هنا: هل أصبح دور التعبئة الدينية في الناس كما كان في السابق، حيث جلالة ومهابة الشيخ في ظل «شح» وسائل الإعلام، وقلة التسارع، والتغيرات في حياة الناس، واحتكار رجل الدين للمعلومة الدينية، وتفسير هذا النص، آخذين في الاعتبار سهولة توفر المعلومة الدينية الآن عبر الإنترنت وبرامج الموسوعات الدينية التي توفرها على الإنترنت أحيانا وزارات الشؤون الإسلامية الرسمية نفسها في العالم العربي!

أعتقد أنه جرت تغيرات كثيرة في المشهد، ولم يعد دور الموجه الديني بهيبته وتفرده بـ«العلم الديني» كما الحال في السابق.

كل شيء تغير في عالم يتغير بسرعة أكثر بكثير من السابق. ولم يعد تأثير رجل الدين المسؤول الاول والاخير عن فهم وتأويل الدين ونصوصه وتحديد علاقة الدين بالحياة والمجتمع والسياسة. باختصار تغير موقع رجل الدين ودوره لأن الحياة نفسها تغيرت.

نحن نعيش فعلا لحظات تحول مثيرة، حافلة بالكثير من الآراء الدينية والدنيوية، ما يعجبنا وما يثير غيظنا منها، لكن هكذا البشر وهكذا هي الحياة فيها ما نحب وما لا نحب من الآراء. لكن ينتصر في النهاية من يملك قوة المنطق والإقناع في الدرجة الأولى.. والأخيرة. قوة الاقناع والمنطق التي تفوق في تأثيرها وديمومتها قوة كل السلطات. وكلامنا هذا لا يشمل الآراء الدينية ذات الطابع الجنائي او التحريض على النظام العام، فهذه يجب ان تواجه بقوة الدولة.

[email protected]