اتفاقية ميونيخ

TT

بدايات الحرب اللبنانية... هدأ القتال قليلا فخرج رئيس الوزراء الراحل رشيد كرامي إلى الناس، وقال: اذهبوا وتمتعوا. اذهبوا إلى البحر فإن مياهه مليئة بمادة «اليود» المفيدة للجسم. والراحة مفيدة للنفوس. وبعد يوم واحد من الخطاب اشتعلت بيروت من جديد.

كان كرامي قد تلقى تطمينات و«تأكيدات» من جميع فرقاء القتال بأن الهدنة طويلة، وأنهم سوف يفسحون في المجال أمام المحادثات. غير أنهم جميعا، كذبوا عليه. وكذبوا على الناس. وكانوا يستعدون لما هو أسوأ وأكثر عنفا.

العام 1938... ذهب رئيس وزراء بريطانيا، نيفل تشامبرلين إلى ميونيخ، للقاء أدولف هتلر وإقناعه بضرورة الوصول إلى حل سلمي وتجنب اندلاع حرب عالمية ثانية. وعاد تشامبرلين من ألمانيا ليبلغ شعبه (والعالم) بأن الفوهرر المحب للسلام لن يبادر إلى أي عمل عسكري. وقرأ بيانا رسميا جاء فيه «إننا نعتبر الاتفاق الذي وقعناه ليلة أمس والاتفاق الألماني - الإنجليزي حول البحار، دليلا على رغبة شعبينا في ألا يشن أحدنا الحرب على الآخر مرة أخرى». وبعد قراءة البيان أمام مقر رئاسة الوزراء صفق له الحاضرون، فاستبدت به البهجة وأضاف مرتجلا: «أيها الأصدقاء الطيبون، للمرة الثانية في تاريخنا يعود رئيس وزراء بريطانيا من ألمانيا حاملا معه سلاما مشرفا. أعتقد أنه سلام زماننا. عودوا إلى بيوتكم وناموا نوما هنيئا».

بعد قليل أفاقت بريطانيا لتسمع أن هتلر اجتاح تشيكوسلوفاكيا بادئا رحلة الحرب الكبرى!

عقد صدام حسين «اتفاقية الجزائر» مع إيران ثم مزقها أمام التلفزيون وكانت النتيجة فيما بعد حربا دامت ثماني سنوات. وربت على كتف الشيخ جابر الأحمد معلنا أنه «جابر العرب» ثم اجتاح الكويت. ووقع الفريقان الفلسطينيان اتفاقية مكة ثم حدث لها ما حدث لاتفاقية ميونيخ. العالم ليس في حاجة إلى «لغة دبلوماسية» بل إلى لغة صادقة. نحن محاطون بزور كثير. كذب أبيض ونوايا كالحة. كلام مغلق ونوايا مغلقة. لذلك لا تهدأ جبهة ولا تحل عقدة ولا يقوم هدوء ولا تهدأ قلوب. لذلك يجف الحبر قبل أن يجف الحلق. ولذلك يملأ الخوف صدور الجميع، لأنهم فقدوا الثقة بزمن الألسنة ورصاص الابتهاج وحبر المعاهدات. من دون صدق وشهامة، كل شيء اتفاقية ميونيخ.