ميزان السلام المعطل

TT

انطلقت جولة جديدة من المباحثات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في العاصمة الأميركية واشنطن برعاية وحرص أميركي واضح. نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف والمثير للجدل، يصر على ضرورة أن يعترف العالم والعرب والفلسطينيون بأن إسرائيل دولة يهودية حتى يكتب لهذه المباحثات النجاح بأي شكل من الأشكال. وهذه المقولة لو قيلت على لسان أي حاكم في العالم بأن بلاده يجب أن تكون فقط، وحصريا، ممثلة في دين واحد أو مذهب واحد أو لعرق واحد لقامت قيامة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمعات المدنية وغير المدنية.

ولكن التصريح صدر على لسان رئيس وزراء دولة تعودت على اختراق العهود والمواثيق والأنظمة والقوانين. تخيلوا معي لو أن سعد الحريري قال إن لبنان للسنة فقط، أو أن جلال طالباني قال إن العراق للأكراد فقط، أو أن عمر البشير قال إن السودان هو لعرب الشمال فقط، كيف كان من الممكن أن تكون ردود الفعل الدولية؟ ولكننا في زمن الكيل بمكيالين. وطلب نتنياهو هو عمليا يعني تفريغ إسرائيل من كل العرب وعدم السماح للاجئين الفلسطينيين المشردين حول العالم من العودة إليها (لأن الموافقة على يهودية إسرائيل تعني أن وجود غير اليهودي فيها مسألة مخالفة). ولتكريس هذا من الجانب العملي من الممكن المقارنة بتمعن حجم التوسع الاستيطاني الذي حصل في الضفة الغربية عموما، وتحديدا في القدس الشرقية التي يستمر تقليص عدد العرب من الفلسطينيين فيها بشكل مذهل وزيادة المباني الإسرائيلية فيها، بل الأدهى والأمر أنه يوم انطلاق المباحثات الأخيرة هذه في واشنطن استحوذت السلطات الإسرائيلية على مساحة 32 هكتارا في قرية قريوط جنوب مدينة نابلس، وتم الاستيلاء عن طريق المستوطنين اليهود المتطرفين والمدججين بالسلاح تحت أعين ومراقبة وحراسة الجيش الإسرائيلي الذي لم يتحرك لمنعهم من الاستيلاء على الأراضي.

هناك أسباب كثيرة تدعو للحذر، بل وحتى الخوف من مغبة التوقع الإيجابي لأي نتيجة من هذه المباحثات، والسبب في ذلك أن كل كروت وأوراق اللعبة المتعلقة بالمباحثات بيد إسرائيل، فنتنياهو يدرك تماما أن الرئيس الأميركي مقبل على الانتخابات النصفية للكونغرس، واللوبي اليهودي النافذ سيفرد عضلاته على أفراد حزبه الذين سيضغطون على رئيسهم بعدم مطالبة إسرائيل بتنازلات لا تقدر عليها، ولا ممارسة ضغوط عليها «زايدة» بحقها، وهذا من شأنه أن يضعف محاولات الرئيس أوباما بأن يكون محايدا أو منصفا وموضوعيا، وبالتالي فعالا ومؤثرا.

إسرائيل تسعى جادة لكسب الوقت على الأرض وشراء ذلك بأي ثمن وبأي طريقة وأسلوب، وهذا لأجل توسيع رقعتها الاستيطانية لفرض أمر واقع جديد في كل جولة مباحثات تنطلق. هناك من يقول إن أوباما عاقد العزم على «إنهاء» الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في خلال سنة بإطلاق الدولتين في اتفاق متكامل بعد عام واحد، وهذا طبعا توجه طموح للغاية، ولكن هناك بعض الساسة العرب والمسؤولين الأميركيين من يؤكد على جدية هذا التوجه ويطلبون منح هذه التجربة الفرصة الكاملة وعدم الحكم عليها مسبقا. إسرائيل وسياساتها لا تعطي أي متابع لها أي ثقة أو احترام في نهجها، وبالتالي من المتوقع أن تكون ردة الفعل على كل الوعود والآمال والشعارات محبطة جدا. إسرائيل تبنت الخيار التوسعي، وتبنت النهج العنصري والمتطرف، قررت أن تكون دولة عنصرية توسعية، وتمارس ذلك وتطبقه بمباركة قوى التحرر والسلام والديمقراطية والحقوق!

أصوات من داخل إسرائيل ومن اليهود السفارديم (اليهود المنتمين لأصول غربية) ومنهم من نجا هو وأهله من المحرقة النازية، يتظاهرون ضد توجهات السياسة الإسرائيلية العنصرية الجديدة وينددون بها ويقولون لم ننج من المحرقة لنقر محرقة جديدة بحق الفلسطينيين، ولكنها تظل أصواتا قليلة وسط عتاة التطرف والعنصرية الذين يحكمون إسرائيل اليوم.

في ظل وجود عقليات مسمومة وتوجهات موتورة تحكم إسرائيل لن يكون هناك أمل كبير في سلام عادل ومنصف لقضية إنسانية طالت وآن أوان حلها. ولكن يبقى الكيل بمكيالين هو أخطر الأسلحة التي تهدد كل مباحثات السلام وطموحاته.

[email protected]