حرب العراق و«رحلة» بلير

TT

درج كثير من السياسيين في العالم على إصدار مذكراتهم بعد مغادرتهم مناصبهم كوسيلة لجمع المال، والعودة إلى دائرة الأضواء، وتصفية الحسابات، ورواية جانب من التاريخ من وجهة نظرهم. لذلك لم يكن غريبا أن يصدر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مذكراته التي نزلت إلى الأسواق الأسبوع الماضي، فكل رؤساء الوزراء في بريطانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نشروا مذكراتهم، وقدموا روايتهم للأحداث ورؤيتهم للتاريخ. إلا أن مذكرات بلير أثارت عاصفة من الضجيج لم تهدأ بعد، فالرجل شخصية مثيرة للجدل على أكثر من صعيد، لكنه سيذكر دائما على أنه الرجل الذي قاد بريطانيا إلى حربين مدمرتين ومكلفتين في أفغانستان ثم في العراق، لا تزال تداعياتهما مستمرة.

كثيرون كانوا ينتظرون مذكرات بلير بفارغ الصبر، لا لكي يجدوا الحقيقة، لأن الرجل سياسي مراوغ من الدرجة الأولى، بل هو القائل في ثنايا مذكراته «إن السياسيين يضطرون من حين لآخر إلى إخفاء الحقيقة الكاملة، أو ليّها، أو حتى إلى تشويهها». لكن الناس كانت تريد أن تسمع ماذا سيقول عن كثير من الأمور والأحداث العاصفة التي شهدتها بريطانيا والعالم خلال فترة رئاسته للحكومة منذ عام 1997 وحتى «تنحيه» الاضطراري في يونيو (حزيران) 2007 بعد عشر سنوات حافلة بالجدل. ربما كان هذا هو السبب الذي جعل المذكرات تقفز في قائمة أكثر الكتب مبيعا وتصبح أسرع المذكرات السياسية مبيعا في بريطانيا، كما أنها وصلت إلى رقم 12 في قائمة أكثر الكتب مبيعا في أميركا (الطبعة الأميركية صدرت بمقدمة خاصة كتبها بلير ليعبر فيها عن مشاعره تجاه الولايات المتحدة)، وإلى رقم 9 في كندا، لكنها لم تجد رواجا مماثلا في فرنسا وألمانيا.

الواقع أن الضجة حول مذكرات بلير بدأت قبل نزولها إلى الأسواق وذلك عندما أعلن مكتب رئيس الوزراء السابق أنه قرر التبرع بكل عائدات كتابه إلى مركز علاج وإعادة تأهيل الجنود البريطانيين الجرحى، وهو مبلغ قدر بأكثر من 4 ملايين جنيه استرليني (نحو 7 ملايين دولار). فقد وصف كثيرون الخطوة بأنها محاولة لشراء ود البريطانيين والاعتذار بشكل غير مباشر عن الحربين الدمويتين في العراق وأفغانستان. إلا أن بلير خيب آمال الكثيرين عندما رفض في مذكراته وفي سلسلة المقابلات الترويجية في الصحف والتلفزيونات والإذاعات مع صدور الكتاب، الاعتذار عن قرار الحرب في العراق، قائلا إنه كان قرارا صائبا، رغم أنه أبدى أسفه لأسر القتلى. فعلى الرغم من أن مبررات الحرب التي قدمت للرأي العام تبين عدم صحتها لاحقا عندما لم يتم العثور على أسلحة دمار شامل، فإنه لا يزال يقول في مذكراته التي اختار لها عنوان «رحلة»: «إنني لا أندم على قرار الحرب.. ووفقا لما نعرفه الآن، فإنني ما زلت أعتقد أن ترك صدام (حسين) في السلطة كان سيشكل تهديدا أكبر لأمننا مما لو أطحنا به».

الاعترافان اليتيمان بشأن الحرب اللذان قدمهما بلير في مذكراته سيثيران أيضا الجدل. فهو يكشف أنه استوحى قرار التدخل في العراق عقب مشاهدته فيلم «لائحة شيندلر» الذي يروي قصة مسعى رجل لإنقاذ اليهود من محرقة النازيين. أما اعترافه الآخر فهو إقراره بأنه لم تكن لديهم استراتيجية خروج واضحة من العراق، ولكن حتى في هذا الجانب فقد حاول طمس الحقيقة. فهو يقول إنهم لم يتوقعوا التدخل المدمر والعنيف لإيران و«القاعدة» في العراق، وهو كلام غريب بالنظر إلى أن الكثير من المحللين توقعوا الفوضى في العراق وحذروا من آثارها، خصوصا بعد قرار حل وتسريح الجيش العراقي. بل يقال إن وزارة الخارجية البريطانية حذرت بلير من احتمالات الفوضى والحرب الأهلية، لكنه في إصراره على الحرب رفض نصائح المعارضين للحرب في حكومته مثلما لم يسمع لأصوات كثيرة في المنطقة حذرت من تبعات الغزو.

من قراءة مذكرات عدد من مسؤولي تلك المرحلة سواء في الإدارة الأميركية أو في الحكومة البريطانية، يتضح أن قرار حرب العراق التي تكلفت آلاف الضحايا وقدرت تكاليفها المالية بما يزيد على تريليون دولار، تبلور عندما حل بلير ضيفا على بوش في مزرعته بتكساس عام 2002، إذ عقد الرجلان جلسات مغلقة لم يشارك فيها حتى أقرب المستشارين. فبعد تلك الاجتماعات ألقى بلير خطابا في مناسبة مقررة في تكساس تبنى فيه لأول مرة نظرية تغيير الأنظمة باستخدام القوة عندما تستدعي الحاجة. وهو لا يزال متمسكا برأيه، رافضا الاعتذار عن التضليل الذي حدث للرأي العام حول مبررات الحرب، ومصرا على القول إنه غير نادم على القرار الذي يراه صائبا. بل إنه يقول لمعارضي الحرب إنه يرى أن بريطانيا والغرب قد يكونان مضطرين قريبا لخوض حرب أخرى، مع إيران هذه المرة.

الباحث عن حقائق حرب العراق لن يجدها في مذكرات بلير، لأن الرؤية التي يقدمها الرجل لواحد من أهم وأخطر قراراته تبقى ضبابية بشكل متعمد، فهو لا يكشف أسرارا بقدر ما يقدم شرحا لرؤيته الآيديولوجية لقرار الحرب، ورؤية شخصية للأحداث والأشخاص. وربما علينا أن نتذكر أن بلير الذي وصفه البعض بأنه ممثل محترف هو من أنصار نظرية «الغموض الخلاق».