(الرومانسية) المادية

TT

يقال إن أعرابيا شاهد الرسول الكريم وهو يحضن ويقبّل سبطيه الحسن والحسين، فقال له متعجبا: أتقبّلهما يا رسول الله؟! فقال له: نعم، فرد عليه قائلا: والله، إن لي أحد عشر ابنا وابنة لم أقبّل في حياتي أحدا منهم قط.

ولا أدري ماذا أعبر عن ذلك الأعرابي، هل أقول: إنه محروم؟! لا هذه قليلة عليه، هل أقول: إن الله قد وضع في صدره كبد وقلب بعير بدلا من إنسان؟! هذه أيضا قليلة عليه، لأن حتى الحيوان، وهو الحيوان، يحن ويحدب على صغاره، ولا أظن أن في الدنيا كلها أشفق من الناقة على مولودها.

والذي دعاني إلى ذكر ذلك، هو ما شاهدته من أحد المعارف وهو يحضن طفله بعاطفة جياشة، ثم رفع رأسه نحوي قائلا: هل تصدق أن لذة معانقتي لصغيري هذا تفوق أية لذة في الوجود، بل إنها أسمى وأمتع حتى من لذة الممارسة الجنسية!!

لم أستغرب من شعوره وكلامه هذا، ففعلا هناك ملذات صغيرة في حياتنا لم نفطن لها، ولم نولها اهتمامنا كما يجب، مع أنها هي الرونق وهي البعد الثالث والرابع في حياتنا، ونهملها أو ننساها في خضم لهاثنا وركضنا وراء لقمة العيش.

صحيح أن الإنسان يجب أن يعمل ويكد بل ويشقى من أجل أن يحصل على رزقه، ولكن ذلك ليس هو كل شيء، ولو أنه أصبح كل شيء لما كان لحياته أي لون أو طعم أو رائحة.

من تلك الملذات التي لا ننتبه لها، شعورك بالأمان والدفء في بيتك بعد أن تعود له بعد إجهاد من العمل في هجير الصيف أو زمهرير الشتاء، أو اقتناؤك مثلا لشيء لم يكن في حوزتك، أو اكتشافك بعد مراجعاتك لحساباتك أنك لم تعد مديونا، أو أنك وجدت وقتا مقتطعا لتقرأ كتابا أو تتصفح مجلة أو تشاهد مسترخيا أمام التلفزيون فيلما فكاهيا، أو تأكل لقمة هنية قدمتها لك بكل محبة شريكة حياتك، أو حتى أن تمتع نظرك بمشاهدة باقة ملونة من الورود وضعت في مزهرية على منضدتك، أو أن تشنف أذنك بقطعة موسيقية أو أغنية تحلّق بك إلى الأعلى، أو أن تشم عطرا، أو تسمع ضحكة أو شكرا أو دعاء، أو أن تسّبح بينك وبين نفسك لله رب العالمين.

الملذات ليست كلها مادية، فصف لي مثلا شعورك إذا ما صحوت من نومك فزعا تعتقد أنك قد تأخرت على عملك وعندما نظرت إلى الساعة التي بجانب رأسك، وإذا أنت تدرك أنه ما زال أمامك ساعتان لتتمتع فيهما بالنوم اللذيذ، وجاء في الحديث الشريف بما معناه: من بات معافى في بدنه، آمنا في سربه، كاسبا قوت يومه، فكأنما ملك الدنيا وما فيها.

وقد فطن أهل اليابان لهذه الملذات، فهناك مثلا جمعيات يشترك فيها الكبار والصغار، ويجددون فيها أياما لاستنشاق الروائح اللطيفة من العطور والبخور، وهناك جمعيات لا هدف لها إلا التمتع بمشاهدة الشموع بمختلف أشكالها، والتمتع في العراء بحرارة الحطب المحترق في ليالي الشتاء، وهناك جمعيات تأخذ مشتركيها في ليالي الصحو ولا شغلة ولا مشغلة لهم غير التأمل في القمر عندما يكون بدرا مكتملا ومراقبته في مسيرته وهو في كبد السماء لمدة ساعات دون أن يكلم أحدهم أحدا.

والذي يسمع أو يقرأ كلامي هذا يعتقد أنني ما شاء الله قد سحبت (الرومانسية) من ذيلها، وما عرف أنني قبل أن أكتب مقالي هذا قد عدت لتوي من خناقة وصلت إلى عنان السماء، وكان لزعيقي وصوتي الكعب المعلى فيها، والخجل الذي يندى له الجبين أن سبب تلك (العركة) هي أمور مادية محضة، والحمد لله أنها اقتصرت على الملاسنة فقط دون مد الأيادي.

يبدو لي - والله أعلم - أن دماء ذلك الأعرابي ما زالت ضاربة جذورها في أعماقي.

[email protected]