معادلة «س. س» الحنطوية

TT

مصائب قوم عند قوم مصائب هذه المرة، وليست فوائد. القوم الذين أصابتهم المصيبة أولا وكانت أشبه بالكارثة هم الروس الذين أحرقت النيران مساحات شاسعة من غاباتهم وحقولهم وأتت على محاصيل تشكل خيراتها أرزاقا لهم ومؤونة لأيام الشتاء القارس دائما.

وبصرف النظر عما إذا كان الحريق بفعل عمل شرير من صنع التكنولوجيا الأميركية الخفية، كما شاع في بعض الأوساط، أو كان إشارة غضب إلهية وجدت معتقدين إلى درجة الإيمان بها في أوساط أطياف من الشعب الروسي الذين استعادت قلوبهم مسيحيتها الأرثوذكسية التي أطبقت عليها عقود العصر الماركسي، أو كانت استجابة لدعوات الأفغان الذين ذاقوا مرارة أيام الاحتلال الشيوعي السوفياتي لدولتهم ورحلوا وقد أسسوا لاحتلال أميركي - أطلسي أكثر سوءا من الأول... إنه بصرف النظر عن هذه الاحتمالات والاعتقادات، إلا أن الحرائق التي لن تنطفئ بالكامل إلا إذا أثلجت وأمطرت وبذلك ينتهي أمر «أغسطس (آب) الروسي» في الذاكرة محفورا كما أمْر «سبتمبر (أيلول) الأميركي» الذي ما زالت شعوب الولايات المتحدة على دهشتها من أن غزوة جوية أشبه بـ«الطير الأبابيلي» قادرة على إحراج هيبة الدولة الأعظم التي تملأ البحار والقفار، وبعض مساحات من السموات أحيانا، أنواعا من أسلحة الدمار الذي يحول الاستقرار إلى فوضى والذي لا يحقق ديمقراطية مقفلا عليها، فضلا عن أنه يحول الحذر والريبة والهواجس المكبوتة إلى احترابات أهلية لا تسلم منها حتى بيوت الله وأولئك الساجدون في رحابها طلبا للرحمة أو للمغفرة.. أو ربما الدعوات إلى رب العالمين لكي يهدي الضالين الذين يبيعون أوطانهم وكراماتهم بما «يجود» به المستبيحون الأوطان بمنصب لا رأي لحامله في المسؤولية وبمصالح يكتشف أن شركاءه في عوائدها على ضلال مثله.

شكلت الحرائق الروسية إحراجا ما بعده إحراج للدولة التي تملك من المخزون النووي صواريخ وقنابل، ومن السلاح التدميري مستودعات. وعلى الرغم من هذا الغنى التدميري، فإن الحريق كان أقوى ومن دون أن يكون في استطاعة عشرات الألوف من رجال الجيش والأمن الداخلي والمتطوعين محاصرة الحرائق. وأتصور شعب روسيا يتضرع إلى الله أن يملأ السماء غيوما تمطر. وهم لو كانوا مسلمين لهرعوا إلى المساجد يؤدون صلاة الاستسقاء المستجابة من رب العالمين.

يطول الحديث في هذا الشأن وفي «العقدة الأغسطسية» لدى الروس الذين كلما حل ثامن شهور السنة تصيبهم مصيبة ما، والذين حالهم في ذلك من حال أبناء العم سام وأحفاده الذين يكابدون، رغم المكابرة، من «العقدة السبتمبرية»، ونلاحظ أنهم يستبقون ذكراها العاشرة باحتجاجات من جانب غير العقلاء والمتجردين منهم، أشبه بقرع الطبول، لأن مركزا إسلاميا يضم مسجدا هنالك رغبة بإنشائه على مقربة من المكان الذي كان يقوم فيه برجا «مركز التجارة العالمي في نيويورك» المعروف بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 بـ«غراوند زيرو». أما الذي نحن في صدد وقفة إزاءه فهو أن المصيبة الروسية، التي كان احتراق حقول من القمح من جملة خسائرها الفادحة، انعكست فورا على الشعب المصري، الذي وفق إحصاءات افتراضية يحتاج يوميا إلى 35000000 رغيف على أساس أن عدد السكان هو 70 مليونا، وأن الفرد يحتاج في الحد الأدنى إلى رغيفين ثلاث مرات يوميا، أما في شهر الصوم الذي تصادف أنه هلَّ على الأمتين، بينما النيران الروسية تواصل من جانبها إحراق الأخضر واليابس على حد سواء، فإن عدد الأرغفة يزداد بطبيعة الحال ومن دون أن نتجاهل طقوس الكحك الذي هو هِبَة المصريين، كما الفول، انسجاما مع حقيقة أن أرض الكنانة هي هبة النيل الذي تحاول بعض دول القارة السمراء بين المنبع وما قبل المصب «النَيْل» من حصة مصر من النهر الذي كان ذات يوم ملهم أمراء القوافي ثم أصبح غير ذلك تماما لكثرة ما يُرمى به من أوساخ وجِيَف، وبذلك يتناسى أحفاد الفراعنة أن مياه النيل في نظر أجدادهم كانت على درجة من القداسة. وسبب انعكاس المصيبة على الشعب المصري أن حسابات الحكومة في مصر قائمة على أن روسيا هي مصدر نصف احتياجات المصريين من القمح.

وإذا جاز التشبيه، فإن الحريق الذي بدأت شرارته الأولى في مناطق بعيدة عن العاصمة موسكو ثم ازداد امتدادا بحيث صنفه المخضرمون بأنه، كما موجة الحر الأسوأ منذ ألف عام، حيث قاربت درجة الحرارة الأربعين، لفح وجه الجهات المسؤولة في مصر عن التخزين والتموين، ووفق سياسة تقليدية، وهي أن مخزون السلع الاستراتيجية هو لمدة أربعة أشهر.

هذه الكارثة التي أصابت روسيا الحنطية كانت مثل صرخة وصل صداها إلى مصر، الحكومة والشعب، وجعلت الجميع مشغولي البال بما يمكن أن يحدث ما دام نصف كميات القمح الروسي المتفق على استيرادها لن تصل، وأن ما سيتم توريده لن يكون بالسعر المتفق عليه. وفي الحالتين تبدو الأمور في دائرة مشارف الخطر.

محاصرة الأزمة ليست مستحيلة لمرة واحدة وبحيث يمكن تدوير الميزانيات فلا يصحو المصري ذات صباح على مخابز أقفلت أبوابها. ولكن لا بد من استراتيجية جديدة متعددة الجوانب بحيث تستعيد مصر إنتاجها الغذائي كما في الزمن الذي كان الشجر أهم من الحجر وكانت الأرض التي تزرع قمحا وشعيرا وذُرة وقطنا أكثر حاجة للمصري من الأبراج التي ترتفع، وبذلك تحل الجزر الإسمنتية محل الحقول الخضراء المزدهرة.

هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن «معادلة س. س.»، ونعني بها التشارك المتأني بين السعودية والسودان، وعلى قاعدة استقرار الأعمال وضمان الأموال من شأنها أن تبقي شعوب الأمة في دائرة الطمأنينة إلى وفرة القمح الذي في استطاعة من ينتجه أن يبقى في مأمن من عاديات الزمن تأتي على النحو الذي حدث في روسيا.

وهذه المعادلة - العلاج للأزمة الحنطوية - هي توأم المعادلة الأخرى (السعودية وسورية) لعلاج الأزمة اللبنانية التي لولا مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز غير المطروقة في الحياة السياسية العربية لكانت النار التي تحرق لبنان أقوى من تلك التي اكتوت بها روسيا.

وعندما نشير إلى «معادلة س. س.» الحنطوية نستحضر تجربة خاضها الملك فهد بن عبد العزيز - رحمة الله عليه - وأنتجت قمحا تولى أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز (الذي نحمد الله على تعافيه من العملية الجراحية التي أجريت له في الولايات المتحدة) تقديم كمية من إنتاجه إلى الرئيس حسني مبارك. وإذا أجيز لي الافتراض؛ فإن الملك فهد كان يقرأ قبل ربع قرن من الزمن في ما يمكن أن يصيب الأمة إذا كان القمح لن يتوافر على أرضها، وهذا جزء من الاستراتيجية التي من المصلحة العودة إلى اعتمادها بحيث يوظف أهل الاقتدار المالي العربي أموالا لدى أصحاب الإمكانات الزراعية. وفي المعادلة الحنطوية السعودية - السودانية ما من شأنه جعل الاستراتيجية تنطلق وعلى قاعدة «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».

وعندما نكتب ما كتبناه فإننا بذلك نخاطب الملك عبد الله بن عبد العزيز رمز النهوض على أنواعه.. وجابر عثرات الكرام من أبناء الأمتين، بفعل حرائق في روسيا جاءت العثرات أو بفعل سيول في باكستان جرفت الزرع والضرع وأغرقت الكثير من البشر والحجر.