الجوع في العمل!

TT

معدة الموظف الخاوية تشتت تركيزه. فالجوع مهما حاولنا صده يبقى سيد الموقف وهو المتحكم في إنتاجيتنا، لأن الغذاء هو الذي يمدنا بالطاقة اللازمة للحياة، وفي مقدمتها الإنتاجية في العمل. ووفقا لاستشاري التغذية بمستشفى الملك فهد بالمدينة المنورة د. محيي الدين عمر فإن «خلايا الدماغ تحتاج أكثر من غيرها... إلى مصدر مستمر للطاقة على شكل سعرات حرارية ناتجة عن حرق السكر والأكسجين»، ولذلك يوصي بأهمية تناول وجبات غذائية صحية وفي مقدمتها وجبة الإفطار «لأنها أفضل طريقة لاستعادة مخازن الوقود» داخل جسم الإنسان إذ أن في هذا وقاية «من حدوث قصور في الأداء العقلي في وقت متأخر من ساعات النهار» على حد تعبيره.

وأضاف د.عمر في مقال متخصص نشرته مجلة «العربي»: «إن أولئك الذين يتناولون وجبة الإفطار سيلاحظون بعد مرور أسبوعين أو ثلاثة أسابيع من تناولها تحسنا ملحوظا في قدراتهم العقلية على التفكير، خاصة عند تناول وجبة صحية متكاملة».

إذن تناول الطعام، وخصوصا وجبة الإفطار في الصباح الباكر أمر مهم حتى لا يدفع الجوع الموظف إلى أن يهيم في أروقة العمل، إنه الجوع... ذلك الشعور الذي ينتاب الموظف فيشعره بالملل، فتجده يتحرك يمنة ويسرة بطريقة عشوائية. بعض الموظفين إذا جاع ترك عمله وذهب إلى أقرب صديق معتقدا أن لديه رغبة في التحدث أو الفضفضة، ولكن الأمر في حقيقته مشاعر جوع خفية تتحكم في مزاجنا وإنتاجيتنا. ولذا فإن الشركات الخاصة وحتى الجهات الحكومية مطالبة بالخروج عن الإطار التقليدي الرسمي في معاملة الموظفين وكأنهم في مصنع أيام الثورة الصناعية، حيث يعامل بعض الموظفين فيه كالآلات التي يجب أن تعمل بدأب متواصل من دون توقف، ومن دون التفاتة جادة إلى حاجاتهم الغذائية وحاجتهم إلى الجلوس لمدة قصيرة لتناول الطعام بعيدا عن أعين المسؤولين.

ما أجمل أن يفاجأ المدير العام أو وكيل الوزارة أو حتى الوزير نفسه موظفي إحدى الإدارات بأن يتناول معهم وجبة إفطار أو غداء خفيفة في أجواء غير رسمية (شريطة عدم تأخير معاملات الناس) وهو أمر لا شك في أنه سيمنح الموظفين شعورا بالراحة «والرغبة في الإنتاجية» وهو ما تتمناه أي مؤسسة ناجحة في العالم.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك عددا لا بأس به من زملاء العمل يفقدون أعصابهم بصورة لافتة، وربما مفاجئة، فيدفع ثمن ذلك العميل المسكين أو المراجع لهذه الدائرة الحكومية أو الخاصة، ثم نكتشف فيما بعد أن هذا الموظف لم يتناول وجبته المعتادة! وكم من قرارات «انفعالية» أصدرها المسؤول في لحظات جوعه ثم ينتبه لاحقا إلى أنه لم يكن موفقا فيها. البعض ربما تثور ثائرته على زوجته المسكينة فيمطرها بوابل من العبارات الجارحة المفاجئة، ثم يتضح لهذه الزوجة صدق المقولة الشائعة بأن «المعدة هي أقصر طريق إلى قلب الرجل»! أليس يقال في المثل الشهير «الجوع كافر»؟!

وحتى لا تكون النتيجة عكسية على الإنتاجية، تجدر الإشارة إلى أن «البَطنَة تُذهب الفِطنَة» بحسب المثل العربي الشهير، أي أن كثرة الأكل تؤثر سلبا على فطنة الإنسان وتركيزه، الأمر الذي تؤكده دراسات علمية كثيرة، إذ تشير إحداها إلى أنه كلما زادت كمية الأكل المتناول زادت معها حالة الخمول والبلادة التي تنتاب الإنسان عقب تناول وجبة غذائية دسمة، وهو ما أشار إليه استشاري التغذية. فالمعدة ما إن تبدأ بعملها فإنها تستدعي الأكسجين في الجسم لكي تؤدي وظيفتها الهضمية، فتقل كمية الأكسجين في دماغ الإنسان الأمر الذي ينتج عنه إحساس ملحوظ بالنعاس. ولذلك لا يقاوم بعض الموظفين نوم القيلولة عقب تناولهم لوجبة غذائية دسمة. والحال ذاتها تنطبق على الموظف الذي يتناول كمية كبيرة من الطعام أثناء الإفطار ليدفع عنه جوع النهار - فيما بعد - ولكنه سرعان ما يجد نفسه ثقيل الحركة قليل النشاط في ساعات الصباح الباكر.

تذكرت هذه الأفكار وأنا أزور حاليا المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، حيث مررت على آلاف الصائمين المتحلقين حول موائد الإفطار الشهيرة هنا، إذ تعلو وجوههم أمارات الإرهاق والتعب، وما إن تناولوا وجبة الإفطار الخفيفة حتى دبت الحياة في أوصالهم وعلت وجوههم الانتعاشة وغمرتهم الهمة والنشاط، فسبحان مغير الأحوال. هنا تيقنت أن الغذاء هو مصدر الهمة والنشاط والإنتاجية لنا جميعا.

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]