دكاترة النيل

TT

أمضينا العمر نقرأ عن النيل كبطل لا كنهر. اعتقدناه قصيدة تكتب أو قصيدة تغنى. شاهدناه في السينما شيئا تجري على ضفافه قصص الحب وقصص الجدعنة. دائما كان يبدو في خلف الصورة لا في مقدمتها. اعتقدناه شيئا صغيرا من يوميات عادية.. مراكب وفلاحين وحداء وغناء. ثم جاء نجيب محفوظ فغرسه في أذهاننا نهرا يسكن الناس مراكبه ويثرثرون، وتطلع منه الحكايات بدل السمك. كل من كتب عنه صوره حانيا وعطوفا، يمر بالترع، ويسقي النخل، ويعين الفلاحين.

الصورة الأخرى التي غرست في ذاكرتنا أنه لا نيل إلا في مصر. ففي أي بلد آخر من بلدانه ما هو إلا عابر سبيل. ولولا طفولة الطيب صالح على الضفاف الخائفة من التماسيح، لما انتبهنا إلى أن الأطفال الآخرين يربون أيضا في النيل، وتحذرهم أمهاتهم من غدر التماسيح.

كان النيل أغنية وحكاية. لم نكن نعتقد أنه قضية وحياة وري وجفاف وطمي. ترك للفنيين أن يحسبوا المليارات المكعبة التي يضخها بلا انقطاع ويدفع بها 620 كيلومترا. أن يحسبوا ما تخزنه «بحيرة ناصر» رغم عمقها القليل. وعندما شكا الإثيوبيون من أن المصريين مقتنعون بأن النيل لهم وحدهم، كانوا على حق. لماذا قال هيرودوتس إن مصر هبة النيل، ولم يقل السودان أو إثيوبيا أو أيا من بلدان الحوض التي تضم 160 مليون بشري؟!

لا أعرف. لكن على المصريين أن يتدبروا المسألة الآن. لا أن يعيدوا توزيع النيل، بل أن يعيدوا توزيع الصورة وفصول الحكاية، وأن يعطوا إثيوبيا شيئا من قصائد شوقي وبعضا من أغاني عبد الوهاب، وأن يقدموا إلى السودان روايات محمد عبد الحليم عبد الله ومعها قصيدتان من حافظ إبراهيم، كحل لمشكلة حلايب، التي كلما تذكرها البشير هز عصاه كما يهزها في وجه الأرجنتيني الملعون، صاحب مذكرات التوقيف.

قرأت كثيرا عن النيل، فرضا أو متعة.. ولا مفاجآت. فلا شيء يمكن أن يفاجئ في ملاحم التاريخ المائية. شيء واحد لم أتوقعه: أن العقيد جون غارانغ وضع أطروحته للدكتوراه حول مضاعفة الاستفادة من النيل في جنوب السودان. كنا نظنه محاربا فإذا هو دكتور في النيل.