انطلقت الإشارة من طهران فبدأ «الصدّاحون» عزف الألحان الإيرانية!

TT

بمجرد أن بات مؤكدا أن المفاوضات المباشرة ستبدأ في واشنطن في الوقت الذي بدأت فيه، اندفعت كل آلات «الأوركسترا» الإيرانية في المنطقة للعزف وفقا لـ«نوتة» واحدة فـ«المجوز» من لبنان والطبل من مصر والربابة من عمان و«الدف» والمزمار من عواصم الغرب حيث يتخندق الصحافيون الذين ادعوا أيام «موسم الهجرة إلى الشمال» أنهم غادروا بلدانهم فرارا بآرائهم ووجهات نظرهم لكن سرعان ما ثبت أنهم تجار مواقف وأنهم غدوا جاهزين لتأجير أقلامهم وصحفهم لمن يدفع أكثر.

من طهران انطلقت إشارة «المايسترو» لتبدأ كل آلات «الأوركسترا» بالعزف وفقا لـ«نوتة» الولي الفقيه، بعدما ألصق وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي، دون أن يرف له جفن، تهمة الخيانة بالمسؤولين العرب الذين حرصوا على دعم الأشقاء الفلسطينيين بالوجود في واشنطن لحظة انطلاق المفاوضات المباشرة، وعندما تبعه محمود أحمدي نجاد بتصريح، طالما كرر قادة حماس مضمونه مرارا بعد قيامهم بذلك الانقلاب الدموي عام 2006، ادعى فيه أن محمود عباس (أبو مازن) لا يمثل الشعب الفلسطيني.

كل الذين التزموا بـ«النوتة» الإيرانية حرفيا أخذوا على المفاوضات المباشرة «أنها تنطلق بينما موازين القوى بين طرفي الصراع الأساسيين» تميل لحساب الجانب الإسرائيلي.. يا سلام ومن قال غير هذا، وأنها بنتائجها ستكون خيانة للقضية الفلسطينية. وبعضهم قال إن مصيرها سيكون الفشل المحتم على اعتبار أن «فسطاط الممانعة» سيستهدفها بسلسلة من العمليات على غرار عملية الخليل الأخيرة التي بات في حكم المؤكد أن غرفة العمليات الإقليمية في إحدى عواصم المنطقة قد قامت بالترتيب لها مسبقا لتستبق بها ما جرى في واشنطن بساعات قليلة.

وحقيقة إنه غير جديد كل هذا الذي قيل خلال الأيام الأخيرة والذي يقال الآن. فالمعروف أن الذين يعتبرون أنفسهم أعمدة «فسطاط الممانعة» والذين تشكل إيران واسط فسطاطهم قد دأبوا في وقت مبكر، قبل ما يسمى انتفاضة الأقصى وخلالها وبعد ذلك، على بذل كل الجهود المشفوعة بابتهالات «الولي الفقيه» وأمواله لإسقاط العملية السلمية وتدمير منظمة التحرير وإفهام الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة وكذلك إسرائيل بأن السلام الممكن والقادر على الصمود هو السلام الذي تباركه طهران وتفاوض عليه. والمفارقة هنا هي أن هذا الهدف قد التقى مع هدف اليمين الإسرائيلي عند نقطة ضرورة إسقاط السلطة الوطنية ورموزها وإنهاء المفاوضات المباشرة منها وغير المباشرة.

وعلى هذا الصعيد، فربما أنه غير جديد القول إن كل ما قامت به حماس، بدفع من إيران وباقي أطراف «فسطاط الممانعة» الحقيقيين، قبل انقلاب عام 2006 وبعده ومن خلال ظاهرة الصواريخ التي انتهت إلى مجرد أكوام من الحديد عند مستوطنة «سديروت» كان لإثبات عجز السلطة الوطنية عن الوفاء بالتزاماتها الأمنية وللتأكيد على أن حركة المقاومة الإسلامية هي البديل الذي إن هو وعد لا يخلف وإذا التزم لا يخلّ. وهذا هو ما يجري الآن حيث بات محرما على أي فصيل فلسطيني آخر وأي إنسان عادي أن يقتني بندقية صيد بحجة تنافي ذلك مع المصلحة الفلسطينية العليا.

وبالطبع فإن عملية الخليل الأخيرة تأتي في هذا الإطار، فالمقصود منها إفهام الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين أيضا أن الفلسطينيين الذين ذهبوا إلى واشنطن للتفاوض ليست لديهم القدرة على الوفاء بالتزاماتهم الأمنية وأن الجهة القادرة على الوفاء بهذه الالتزامات هي الجهة التي نفذت هذه العملية. وهنا فإن ما يؤكد أن إيران تقف وراء كل هذا وأنها مصممة على إحباط المفاوضات المباشرة ومنع عملية السلام من التقدم طالما أن هذا السلام ليس سلامها ولا يخدم مصالحها الإقليمية ويعزز مكانتها في الشرق الأوسط، أن الأبواق الإيرانية انطلقت كلها لتعزف «نوتة» الولي الفقيه، وأن منوشهر متقي لم يخجل من أن يلصق تهمة «الخيانة» بالعرب الذين زاروا واشنطن عشية انطلاق هذه المفاوضات، وأن محمود أحمدي نجاد قد قال عن محمود عباس (أبو مازن) إنه لا يمثل الشعب الفلسطيني!!

لقد غدا «الجهاد» بالنسبة لحركة حماس وللفصائل الاثني عشر الأخرى، التي أصدرت بيان غزة الأخير الذي أعلنت فيه الحرب على المفاوضات المباشرة حتى إسقاطها، بمثابة الفريضة الغائبة منذ أن أوقفت ظاهرة الصواريخ الدخانية وأظهرت استعدادها للقبول بدولة مؤجلة لعشرين عاما واستعدادها لتكون المفاوض البديل عن منظمة التحرير والسلطة الوطنية وفتح، ولهذا فإنها بادرت بتنفيذ عملية الخليل المرتبة والمعدة سلفا عشية انطلاق المفاوضات المباشرة لتُفهم «كل من يعنيه الأمر» أنها هي الجهة الفلسطينية الأقدر على الوفاء بما يتم الاتفاق عليه، وأنه لا سلام في الشرق الأوسط ما لم يكن سلاما إيرانيا مؤيدا من باقي أطراف «فسطاط الممانعة» مع أن معظمها مجرد أرقام وهمية.

والمستغرب هنا أن كل هؤلاء ومن بينهم كل الكتبة والإعلاميين (العرب)، لم يلاحظوا أن محمود أحمدي نجاد في آخر تصريح له في هذا الخصوص لم يهدد إسرائيل بالفناء وبإزالتها من الخريطة العالمية لأنها تحتل القدس الشريف وفلسطين بل هي فكرت بالاعتداء على إيران، وهذا أمر يجب أن يفهمه الذين ما زالوا يراهنون على الدور الإيراني والذين لم يكتشفوا بعد أن كل ما يهم الذين انتهت إليهم مقاليد الأمور بعد انحراف الثورة الإيرانية عن طريقها السابق هو أن يكونوا الرقم الرئيسي في المعادلة الشرق أوسطية حتى وإن كان أفيغدور ليبرمان هو الشريك الأساسي الآخر في هذه المعادلة.

وما دام الحديث هو عن هذه المفاوضات المباشرة فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين يؤيدون هذه المفاوضات على الجانب العربي والذين يخوضون غمارها من الجانب الفلسطيني ليست لديهم أي أوهام بأنها ستمضي من دون عوائق وأنها ستنتهي باتفاق يحقق للفلسطينيين حلم إقامة دولتهم المستقلة. فالعوائق كثيرة والإسرائيليون لم يظهروا بعد ما يعزز القناعة بأنهم جادون وأن لديهم الاستعداد لدفع استحقاقات السلام المطلوب. لكن ومع ذلك فإنه لا بد من خوض هذه المعركة على هذه الجبهة ما دامت هناك جدية أميركية وما دام العالم كله بات مع ضرورة إنهاء الصراع في هذه المنطقة.

إنها بالفعل معركة وعلى العرب كلهم أن يساندوا القيادة الفلسطينية الشرعية والحقيقية في خوض هذه المعركة والمفترض أصلا أن يكون هناك وجود عربي من خلال لجنة المتابعة العربية في واشنطن عشية انطلاق المفاوضات المباشرة وذلك لإفهام الإسرائيليين والأميركيين والعالم كله أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم وأنهم إذ يفاوضون فإنهم يفاوضون وهم يشعرون أنهم يستندون إلى جدار عربي منيع يمتد من تطوان في الغرب وحتى مملكة البحرين وعُمان في الشرق.